ليس الركود هو المشكلة الوحيدة التي يعاني منها سوق العقار في مناطق سيطرة داعش الآن، بل رافقته مجموعةٌ من المشاكل الأخرى وُجدت مع ظهور التنظيم ودفعت بأهمّ الأسواق إلى الانهيار.
كما هو معروفٌ، تقول القاعدة الاقتصادية العامة إن الطعام واللباس والسكن هي السلع الأقلّ تأثراً بمشاكل الركود وارتدادات ضغوط البيئة المحيطة، لأنها من المقوّمات الأساسية للحياة، والتي لا يمكن الاستغناء عنها. لكن، مع بروز تنظيم الدولة كلاعبٍ رئيسٍ، بل أوحد، على حساب الجيش الحرّ، في رقعةٍ شاسعةٍ من البلاد، راحت أمور السوق العقاريّ في هذه المناطق تسير في اتجاهٍ مختلف.
ففي المرحلة التي تلت اندلاع الثورة وسبقت تحرير هذه المناطق؛ ظلّ سوق العقارات يتمتع ببعض الحيوية، ولو بوتيرةٍ بطيئةٍ أحياناً، بالرغم من العوائق التي كان هذا السوق يعاني منها قبل الثورة، والتي تبدأ بالكساد وصولاً إلى التعقيدات الإدارية والبيروقراطية في إجراءات المعاملات وتراخيص الأبنية التي كانت تعتمدها الدوائر الرسمية التابعة للنظام. حتى كان التحرير وسيطرة كتائب الجيش الحرّ، إثر خروج هذه المناطق عن سيطرة النظام، لتصبح الأمور بعد ذلك سهلةً وميسّرةً إلى درجةٍ لامست الفوضى في بعض الأحيان، نتيجة زوال العوائق والتعقيدات التي لطالما حدّت من حرّية البناء بالدرجة الأولى، ومن ثمّ التعاملات التجارية التي تحكم هذا السوق. فقد ازدادت نسبة العرض والطلب، بالتزامن مع نشاطٍ كبيرٍ في الحركة العمرانية، ما تسبّب في زيادة عدد الأبنية الجديدة بشكلٍ ملحوظٍ. ليمتصّ السوق العقاريّ بذلك كتلةً من الأموال ويحيلها إلى كتلٍ إسمنتيةٍ، وليحرّك هذا النشاط المؤقت حوالي 30 إلى 35% من القوة العاملة، ومثلها تقريباً من السيولة السوقية، بحسب تقديراتٍ متقاربةٍ لتجار عقاراتٍ في كلٍّ من حلب والرقة ودير الزور المحرّرة. وتقدّر الأبنية المشيدة بعد سيطرة الجيش الحرّ بـ75 مليار ليرةٍ سوريةٍ، أو 500 مليون دولارٍ، في المدّة بين أواخر عام 2012 وبدايات عام 2014. إذ بلغ متوسّط سعر المنزل الذي تتراوح مساحته بين 100 و120 متراً مربعاً، في المدن والتجمعات السكنية، ما يقارب 40 ألف دولارٍ حينها. ومتوسّط إيجار المنزل في المناطق نفسها من 200 إلى 300 دولارٍ، لتشهد هذه المناطق بذلك نشاطاً على المستوى العقاريّ، وتكون وجهةً للنزوح حتى من بعض مناطق سيطرة النظام.
ومع احتلال التنظيم لمدينة الرقة ومعظم محافظة دير الزور ومناطق أخرى، وبدئه بفرض معتقداته وفتاواه المتطرفة، واستخدامه القوّة والقسوة لذلك؛ شاع بين الناس شعورٌ عامٌّ بالتململ وعدم الاستقرار اضطرّ الكثيرين منهم إلى الهجرة أو إلى التفكير فيها، ما أثر على حركة السوق ونقص الطلب على العقارات بشكلٍ عامّ. وبتحكّم التنظيم بمفاصل الحياة الاقتصادية، متخذاً من مزاجية أمرائه وقضاته معياراً أو معايير لإضفاء بعض القدسية على آلية فضّ النزاعات وتنفيذ العقود وغيرها من الإجراءات التي اعتاد المجتمع عليها، حين ألغى التنظيم طريقة الرهن والفروغ في تداول العقارات، والتي كانت تحكم شراء معظم المحالّ التجارية بالدرجة الأولى، وأكثر من نصف عمليات اقتناء المنازل السكنية؛ توقفت عمليات البيع بشكلٍ شبه تامٍّ، ليقتصر الأمر على بعض الإيجارات التي يفضّلها مقاتلو الدولة "الباقية"، الذين لا يحبذون التملك لعدم إيمانهم القطعيّ بأنها باقية. وليقضي وجود التنظيم على مصدر رزق آلاف الأسر التي يعمل معيلوها وأبناؤها كمهنيين وعمالٍ ومهندسين في مجال البناء، وعددٍ لا يستهان به من تجار العقارات الذين حسبوا أن العقار استثمارٌ آمنٌ فوقعوا بين بحر الركود وعصا التنظيم، فاضطرّوا مرغمين إلى النزوح ولسان حالهم يقول: إذا حلّ الثقيل بأرض قومٍ/ فما للساكنين سوى الرحيل.