يعنى كتاب «البعث الشيعيّ في سورية» بدراسة تمدّد هذا المذهب في البلاد، خلال الفترة الرئاسيّة الأولى لبشار الأسد (2000 ـ 2007) أساساً. ويعتمد على جولاتٍ ميدانيّة، ووثائق رسميّة، وتقارير صحفيّة، وشهاداتٍ مباشرة. ويستخدم مفاهيم مثل «سنّي» و«شيعي» و«علوي» بوصفها مفاهيم اجتماعيّة وإجرائيّة، دون أيّ تحيّزٍ مذهبيّ. صدر، دون اسم مؤلّف، عن المعهد الدوليّ للدراسات السورية، عام 2009.
مع بروز مفهوم الهلال الشيعيّ، الذي يمتد من إيران إلى جنوب لبنان، أخذ موضوع الدعوة إلى التشيّع في سورية يحظى باهتمامٍ محليٍّ وإقليميٍّ ودوليّ، لا سيما وأنه ليس نشاطاً دينياً صرفاً، بل هو جزءٌ من فعلٍ سياسيٍّ لمدّ النفوذ الإيراني إلى بلدٍ ذي موقعٍ استراتيجيٍّ وحسّاسٍّ إقليمياً. أما من الناحية المذهبيّة البحتة، فإن العاصمة التاريخيّة للأمويين تشغل مكاناً هاماً في أذهان المسلمين السنّة، الذين يعتقد كثيرٌ منهم أنها ستشهد ظهور المهدي، فيما يعتقد معظم الشيعة أنها البلاد التي ستناهض «المهدي المنتظر».
وقد تعامـــــــل الأســـــد الأب بكثيرٍ من الحذر مع النشاط التبشيريّ الشيعيّ، لأنه خَبِر المواجهة السنّية لنظامه في الثمانينيات. أما ابنه بشار، فقد ورث مؤسسةً دينيّةً سنّيةً منضبطةً بإيقاع النظام، وعلماء دين زاهدين بالمجال العام، أو منخرطين فيه وفق شروط الترويض الصارمة، فأغراه هذا على التعامل مع هذه المؤسسة بوصفها جهازاً ملحقاً، يستخدمه لأغراضه دون أن يمنحه مقابلاً. أما الجهات الشيعيّة فقد سمح لها بالعمل بكامل حريتها، لأغراضٍ سياسيةٍ وقناعاتٍ شخصية، دون أن يراعي ما قد ينتج عن ذلك من استفزازٍ مذهبيٍّ واجتماعيّ.
ففي حزيران عام 2000 استقبل الرئيس الجديد ضيفه اللبناني حسن نصر الله، القادم للتعزية بوفاة والده. وبعد أن عانقه الأمين العام اللامع وقتها، تنحّى مستعرضاً أمامه رتلاً من نخبة مقاتلي حزب الله. كان معنى هذه الرسالة أن مقاتلي الحزب هم جند بشار الأسد، الذي بمقدار ما قويت علاقته الشخصيّة بنصر الله، كان يفتح له المجال العام السوري، الإعلامي خصوصاً، على مصراعيه.
ومن جهةٍ أخرى كانت علاقات بشار مع الأقلية الشيعيّة السوريّة المتناهية في الصغر، ومع شيعةٍ عراقيين وإيرانيين يعملون على الأراضي السورية في قضايا الإحياء المذهبيّ، علاقاتٍ خاصّة حتى قبل استلامه الحكم. إذ كان مصدر تقديم الدعم لهم فيما يمكن أن يعترض نشاطهم من عقبات، باستثاء السماح لهم بتشييد الحوزات والحسينيّات، التي لم يكن يستطيع تجاوز خطوط والده الحمر بشأنها. ولكن هذه الممنوعات تلاشت منذ عام 2001، عندما بدأ إنشاء الحوزات، الذي لم يتوقف منذ ذلك الوقت، بتسهيلاتٍ غير اعتيادية. فعندما تقدّم شيعيّ هنديّ، هو علي باقر تصوّر، بمعروضٍ من ورقةٍ واحدةٍ دون أية وثائق أخرى، يطلب فيه الموافقة على إقامة «حوزة المهدي» في منطقة السيدة زينب؛ جاءه الرد إيجاباً، بتوقيع اللواء عدنان الحسن، رئيس شعبة الأمن السياسيّ وقتها، خلال أسبوعٍ واحد، بينما كان الحصول على ترخيص افتتاح معهدٍ لتعليم اللغة الإنكليزية، أو لتقوية الطلاب في المناهج الرسميّة نفسها، يستغرق ستة أشهر أو أكثر.
كما أسّس الشيخ عبد الحميد المهاجر، وهو عراقيٌّ من تلامذة المرجع محمد الشيرازي، جمعيّةً باسم «هيئة خدمة أهل البيت»، سيّرت أول موكب عزاءٍ شيعيٍّ عام 2001، ضمّ ما يقرب من ألفين من الرجال والنساء، ومشى داخل أحياء دمشق القديمة، التي شاهد أهلها موكب اللطم، مصحوباً بسيارات الإسعاف وعناصر أجهزة المخابرات، دون أن يجرؤوا على الاعتراض إلا همساً، حتى بعد أن أصبحت هذه المسيرة عادةً موسمية.
ومن جهةٍ ثالثة، شجّع بشار الأسد تشييع الطائفة العلوية، أو تيار (عودة الفرع إلى الأصل). وهو تيارٌ بدأ منذ نهاية القرن التاسع عشر، يؤكّد أن المذهب الإمامي الجعفري هو الأصل، وأن المذهب النصيريّ فرعٌ منه، وأن أبناء طائفة هذا الفرع الغامض يجب أن يقوّوا صلتهم بالمذهب الشيعي، بل أن يرجعوا إليه في أصول الفقه وفروعه. وكان هذا التيار قد شهد طفرةً واسعةً عندما أسّس جميل، شقيق حافظ الأسد، «جمعية المرتضى الإسلامية»، عام 1981. والتي نشطت في نشر الفكر الشيعي الممتزج بتمدّد النفوذ العلوي داخل سورية، إلى أن أعلن الرئيس الشقيق حلّها، عندما انحازت إلى الشقيق الثالث رفعت، أثناء الصراع على السلطة. فانصرف جميل إلى تجارة التهريب وممارسة الابتزاز في الموانئ والمنافذ الحدوديّة، معتمداً على كثيرٍ من أعضاء الجمعية السابقين من الشبّان، الذين تحولوا إلى عصاباتٍ مسلّحةٍ رعاها جميل وعددٌ من أفراد العائلة الأصغر سناً، وعرفت بالاسم الذي بات شهيراً الآن «الشبّيحة».