النازحون من تل أبيض ورأس العين في مهب التوظيف السياسي

شهدت المنطقة الممتدة من تل أبيض حتى رأس العين شمالي محافظتي الرقة والحسكة المحاذيتين للحدود السورية التركية، حركة نزوح جماعية لقاطنيها من المدنيين بسبب العملية العسكرية التي أطلقها الجيش التركي مع فصائل "الجيش الوطني السوري" في 9 من تشرين الأول ضد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد). ومع توزع النازحين على مناطق عدة، حاول كل طرف من الأطراف السياسية والعسكرية الفاعلة استثمار وصول نازحين إلى منطقة سيطرته لتشويه صورة طرف آخر أو لكسب شرعية سياسية، الأمر الذي انعكس حتى على تصريحات الهيئات الدولية المعنية بشؤون النازحين.

يقول خليل أحمد (29 عاماً من أهالي مدينة رأس العين):"لم أكن أتوقع حدوث الهجوم، لأن الأمور كانت تبدو شبه طبيعية في المنطقة قبل يوم من العملية العسكرية التركية، ورغم استنفار عناصر الوحدات الكردية فهم كانوا يؤكدون أن الأمر مجرد تهديدات لا أكثر". ويتابع "مع بدء العملية في الأرياف المحيطة برأس العين لم أكن قد قررت مغادرة المدينة، لكنني عندما قمت بجولة في سيارتي على عدد من أحياء المدينة وجدتها خالية والسكان يسعون للهروب بأي طريقة".

وتابع خليل أحمد مستعيداً تلك الساعات الصعبة "لم أحسم أمري بالمغادرة إلا بعد أن اتصل بي أهلي وألحوا عليّ لأخرج بهم إلى مدينة الحسكة، لأن الوضع بات خطيراً في رأس العين. عندها وضبت سريعاً ما هو ضروري من الأغراض، وبقينا قرابة ساعة ونصف ساعة لنتمكن من المغادرة عبر مخرج البلد الجنوبي بسبب الازدحام وكثرة النازحين الهاربين (باتجاه الحسكة)".

ومع احتدام المعارك في منطقة العمليات العسكرية الممتدة بطول نحو 140 كيلومتراً بين تل أبيض ورأس العين، كان لا بد لعشرات الآلاف من الأهالي من اتخاذ القرار المناسب حفاظاً على أرواحهم. فسعى البعض منهم إلى العثور على مأوى يظنونه أكثر أماناً في مكان قريب داخل المنطقة نفسها، بينما اختار آلاف آخرون البحث عن مكان خارج الحدود الإدارية للمنطقة يقيهم ويلات القتال.

ونتيجة هذه الفوضى وعدم وجود هيئة مركزية واحدة قادرة على رصد حركات النزوح هذه، كان من الصعب جداً رسم صورة واضحة وثابتة لأعداد النازحين ووجهاتهم.

ففي 21 من تشرين الاول أفاد المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك أن "180 ألف شخص نزحوا منذ بدء العملية العسكرية التركية في التاسع من تشرين الأول من بينهم 80 ألف طفل." بينما صرح نائب المتحدث باسم الأمين العام فرحان حق في 40 من تشرين الثاني، أن "أعداد النازحين من مناطق العمليات العسكرية قد بلغ نحو 108500 شخص بينهم أكثر من 47 ألف طفل".

كما صرح وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ مارك لوكوك في 14 تشرين الثاني أنه "من بين أكثر من 200 ألف شخص فروا من شمال شرق سوريا بعد بدء العملية التركية عاد معظمهم، لكن أكثر من 70 ألف شخص ما زالوا مشردين". وبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بتاريخ 22 تشرين الثاني، فإن 15500 لاجئ عبروا الحدود "بحثاً عن الأمان في العراق المجاور".

بينما قدرت "الإدارة الذاتية" في بيان صدر عنها في 27 تشرين الثاني، عدد النازحين ب 350 ألفاً من مناطق عملية نبع السلام!. في حين انحصرت استجابتها لكل هذا العدد الضخم الذي أعلنت عنه، في إقامة مخيم "واشوكاني" قرب بلدة التوينة غربي مدينة الحسكة في بداية تشرين الثاني. وأوضح الهلال الاحمر الكردي "أنه قد يتسع لنحو 3000 عائلة"، كما أعلنت عن إقامة مخيم آخر في بلدة تل السمن في ريف الرقة الشمالي لإيواء نازحي تل أبيض وريفها في 23 تشرين الثاني الماضي.

من جانبها أعلنت مديرية الشؤون الاجتماعية في الحسكة التابعة للنظام، أن "عدد الأسر المهجرة من الريف الشمالي للحسكة وصل إلى نحو 19 ألف أسرة تقيم في 84 مركز إيواء مؤقت"، أي أن عددهم يقترب من مائة ألف شخص. لكن أحد العاملين في جمعية خيرية مقربة من النظام أوضح لمجلة عين المدينة، أن أعداد النازحين وصل في مدينة الحسكة إلى 42727 نازحاً، "غالبيتهم يقيمون في منازل استأجروها أو عند أقاربهم، والبعض في مدارس تم تخصيصها لإيواء النازحين".

يعود جزء من الاضطراب في الأرقام التي تقدمها مختلف الجهات في هذه المنطقة إلى صعوبة إجراء إحصاء للسكان، ولمحاولة التلاعب بالأرقام لأهداف سياسية. ففي عام 2018 نقلت وسائل إعلام عن "المكتب المركزي للإحصاء" التابع للنظام، أن عدد السوريين الموجودين على الأراضي السورية بلغ في منتصف العام 2017 نحو 24,422 مليون نسمة، وهو رقم تكذبه أعداد النازحين السوريين في دول الجوار أو في أماكن أخرى من العالم.

يشرح ناشط حقوقي من تل أبيض يتنقل بين تركيا وسوريا طلب عدم ذكر اسمه، لعين المدينة أن النزوح في منطقة تل أبيض خلال العمليات العسكرية نزوح مؤقت. يقول الناشط "عادة ينزح أهالي قرية تشهد اشتباكات إلى القرى المجاورة، وبعد سيطرة الجيش الوطني عليها يعودون سريعاً" إلى منازلهم. ويتابع أن "النزوح الذي رافق العملية كان محدوداً وإلى القرى القريبة من الحدود مع تركيا، وفي العموم لم تحصل هناك اشتباكات قوية تسببت بنزوح جماعي". وأوضح أن قرابة 50 بالمئة من أهالي تل ابيض هم مهجرون في تركيا، أو في مناطق "غصن الزيتون" (عفرين) و"درع الفرات" (شمال شرق حلب)، وقد كانوا نزحوا قبل العملية التركية الأخيرة، وخاصة خلال سيطرة داعش أو وحدات حماية الشعب الكردية على المنطقة.

يقول يوسف (31 عاماً، أب لثلاث أطفال من مدينة تل أبيض) لعين المدينة إنه نزح مع "أغلب النازحين الذين اتجهوا إلى مدينة الرقة ومدينة عين عيسى وبعض أريافهما. العمليات العسكرية في تل أبيض لم تستمر كثيراً، لذلك قررنا العودة إلى بيوتنا. لكن لا تزال الحركة بالأسواق ضعيفة لقلة المواد الغذائية والخضار وكذلك الخوف من التفجيرات والسيارات المفخخة".

ولدى مقارنة الأرقام التي حصلت عليها مجلة عين المدينة من العامل في الجمعية الخيرية المقربة من النظام، بحصيلة الأرقام التي قدمتها مكاتب وهيئات الأمم المتحدة، يتبين أن مناطق النظام في الحسكة هي الوجهة المفضلة لنازحي رأس العين. وربما تدخل التفضيلات السياسية في خيار أهالي تل أبيض في العودة إلى مدينتهم تحت ظل "الجيش الوطني"، لكون الأخير حقق "حلم العودة" لنازحين سابقين عن المدينة هرباً من ملاحقة قوات الإدارة الذاتية أو التجنيد الإجباري، إضافة إلى خوف السكان على ممتلكاتهم الخاصة من النهب، بينما يأتي البحث عن الأمان في أعلى درجات سلم الخيارات لدى أهالي رأس العين الذين يشكلون الكتلة الكبرى من أعداد النازحين.

أبو علي (31 عاماً تركماني من قرية حمام التركمان التابعة لمنطقة تل أبيض، خريج أدب انكليزي)، يقول "الأهالي تركوا المدينة كنتيجة للحرب، حتى أن أهل مدينة أقجع قلعة التركية المقابلة لتل أبيض نزحوا بسبب القذائف التي أطلقتها قوات قسد باتجاه الأراضي التركية. ثم عاد أهالي منطقة تل أبيض بسبب عدم القدرة على النزوح، وعمليات السرقة التي حصلت واستهدفت منازلهم. ثم أن المعارك التي شهدتها مدينة تل أبيض لا تقارن بالمعارك الشرسة التي جرت في رأس العين لوجود مقاومة من قبل قوات قسد هناك".

الشاب محمد (24 عاماً) نزح من رأس العين إلى مدينة الحسكة ثم عاد إلى بيته في رأس العين، يقول: "جميع الأطراف يحاولون استغلال معاناتنا. عندما كنت في الحسكة، كانت تزورنا في اليوم الواحد من 3 إلى 4 منظمات وجمعيات خيرية، ولكن كل ما حصلنا عليه هو اسفنجات وبطانيات وكرتونة مساعدات غذائية". يتابع محمد "كنت موجوداً بساحة الحمرا (الرئيس) وسط مدينة الحسكة عندما كانت القوات الروسية توزع مساعدات غذائية.

حصلت على كيس من المساعدات يوجد فيه علبتا ساردين و200 غرام شاي وكيلو سكر وكيلو رز و2 كيلو طحين".

وتذكر أم عبد (37 عاماً معلمة مدرسة وأم لخمسة أطفال من رأس العين نزحت إلى مدينة الحسكة) أنها عادت إلى بيتها بسبب "غلاء إيجار المنازل الذي بلغ ما يقارب 150 ألف ليرة سورية"، مضيفة "قد تتوفر للنازحين بيوت بأسعار أقل لكنها لا تصلح للحيوانات" حسب تعبيرها. وتستدرك أم عبد في حديثها لعين المدينة "صحيح أننا عدنا، ولكنني ما زلت خائفة على أطفالي من عمليات التفجير أو حتى من الألغام التي زرعت منذ أيام الاشتباكات. الناس ليس لديهم سبب للرجوع، فالماء والكهرباء مفقودة، والاعتقالات (من قبل الفصائل التابعة للوطني) بغرض الفدية كثيرة".

خضعت جميع المعلومات الخاصة بالنازحين من منطقة عملية نبع السلام لاضطراب كان وراءه عدم سهولة الوصول إلى المعلومات، كما خضع بنسبة أكبر للخطابات السياسية من أطراف محلية عدة. أما وضع خلفيات إثنية وراء تفضيل قسم من السكان (الأكراد خاصة) عدم العودة إلى مناطقهم كما تفعل جهات إعلامية وبحثية وسياسية، فذلك يكذبه تمسك نازحون عرب بعدم العودة حتى الآن، كما أن هذا التحليل يفتقر إلى أرقام صحيحة -لا تمتلكها أي جهة- تخص التوزع الإثني في المنطقة.