الفرات العظيم... هكذا يُرَدّ إليه فضله

على شاطئ الفرات - مدينة الميادين

حين تجلس على ضفّة الفرات حاول أن تجعل نظرك يتجه نحو الأفق. استمتع بما يحمله إليك نيسان من ارتفاعٍ في منسوب النهر، وبالجوّ الربيعيّ الهادئ. ابتعد قدر الإمكان عن مراقبة ضفتيّ النهر، ففيهما على الأغلب ما لا يسرّ.

كان عدم وجود مصانع تسمّم مياه الفرات في منطقة الميادين نعمةً كبيرةً من الناحية البيئية، جعلت مياهه، إلى حدٍّ ما، تستحقّ الاسم الذي تحمله "فرات". إلا أن عدم وجود تلك المصانع لا يعني بالضرورة أن قطاعاتٍ أخرى لا يمكن أن تجد لمخلفاتها مأوىً غير النهر، وهذا الحال ينطبق بصورةٍ خاصّةٍ على قطاع الصحة مع الأسف. فالعديد من المشافي ترمي نفاياتها ومخلفاتها الطبية في النهر الآن. وبالتالي فهي تعالج الناس بيمناها لتزهق أرواحهم باليسرى. "عين المدينة" التقت بالطبيب ياسر صادق، الذي كان يعمل في إحدى مشافي الميادين، والذي قال: حين يتم الحديث عن رمي النفايات المنزلية في النهر فهذا أمرٌ يستدعي التدخل من قبل الجهات صاحبة العلاقة، أما حين يكون الحديث عن رمي النفايات ومخلفات المشافي فيه فهذا الأمر يستدعي تحرّك المجتمع بأسره. عالمياً، كان التعامل مع نفايات المشافي سابقاً يتمّ عن طريق الحرق، إلا أن ما يسبّبه ذلك من تلوّثٍ في الهواء أدّى إلى ظهور بدائل أخرى على رأسها التعقيم بالبخار. ولكن في سوريا بقيت المعالجة تتمّ بشكلٍ عامٍّ عن طريق حرق هذه المخلفات، وبدرجات حرارةٍ غير كافية، مما يتسبب في انبعاث دخانٍ يحتوي على ما يسمى "الديوكسينات" وغازاتٍ كثيرةٍ أخرى، أو عن طريق رمي هذه النفايات في مكبّ النفايات المنزلية. هذا كله كان من الأمور التي تجري تحت أعين الجميع، دون أن يفكر أحد بقرع ناقوس الخطر. أما رمي تلك المخلفات في النهر فهذا ما يرفع درجة الخطورة إلى الحدّ الأقصى، فهو يعني أن تلك المخلفات ونواتجها صارت تدخل كل بيتٍ من بيوتنا، اذا أخذنا بعين الاعتبار الحالة المثيرة للشفقة التي تعاني منها محطات تنقية المياه.
ولكن، مع الأسف، فإن الآثار السلبية لهذه المخلفات مجهولةٌ حتى بالنسبة إلى العديد من العاملين في الحقل الطبيّ. ولا يوجد أيّ شكلٍ من أشكال التدريب للعاملين حول كيفية التخلص منها. وأكثر المخلفات الطبية يأتي من أقسام التوليد والجراحة والأطفال. وأخطر هذه النفايات أعضاء الجسم التي تمّ استئصالها نتيجة العمليات الجراحية، بالإضافة إلى ضمادات الجروح، والصور الشعاعية، والإبر، وبقايا الأدوية المستخدمة، والأدوية غير المستخدمة لانتهاء الصلاحية.
محمد. ن، العامـــــل في أحــــــد المراكز الطبية، يعترف برمي المخلفات الطبية في النهر: أرمي النفايات الطبية في النهر بعد إحكام إغلاق الأكياس، ولديّ أملٌ أن يخفّف ذلك من أضرارها. النهر عزيزٌ عليّ ولكني عديم الحيلة. أنا موظفٌ
في مكانٍ يرى القائمون عليه في رمي هذه المخلفات في النهر الطريقة الأفضل والأسهل للتخلص منها.

النفايات والسيارة التي لا تأتي

ولكن النهر ليس ضحية القطاع الطبي فقط، فالمقاصف والمطاعم التي تتربع على ضفتيه لا توفر أي جهدٍ من أجل قتله وتشويهه. التقت "عين المدينة" بعامر المحمد، أحد روّاد تلك المقاصف، للحـــــديث عن هذه الظاهــــرة، فقــــــــال: لا يخجل العاملون في المطاعم من رمي النفايات، من بلاستيكٍ وورقٍ وبقايا طعام، في النهر في وضح النهار، وتحت أعين رواد المطعــــم، مع أن كل زبائنهم لا يأتون إلا من أجل الاستمتاع بالنهر. بهذه الطريقة هم يردّون للنهر فضله عليهم. وهم لا يخجلون لأن هذا السلوك صار سلوكاً اعتيادياً، وصار النهر بمثابة مكبّ نفاياتٍ طبيعيّ، مع أن التـــــــخلص منها ممكنٌ بوسائل أخرى كثيرة.
الكثير من الزبائن يحتجّون على هذا السلوك، ويعتبرونه مثيراً للازدراء. وفي كل مرةٍ يقول العامل إنها المرة الأولى والأخيرة، بسبب تأخر السيارة التي تحمل نفاياتهم. وبالطبع، هذه السيارة في حالة "تأخرٍ" دائم.