وردتنا هذه الشهادة من متابعٍ ومطّلعٍ على مسيرة التنقيب العشوائيّ عن الآثار في المنطقة المذكورة. ونظراً لأهمية الموضوع تقوم "عين المدينة" بنشرها كما وصلت، دون أن نستطيع أن نؤكّد أو ننفي الوقائع والأماكن والأسماء المتضمّنة فيها.
تحوي قرى الريف الغربيّ لدير الزور على مواقع أثريةٍ عديدةٍ ومعروفة. إذ جرت وتجري عمليات البحث العشوائيّ عن الآثار في بلدات الطريف والمسْرَب والخرَيْطة وتلة عيّاش، فضلاً عن المواقع المعروفة كحلبْيَة وزلبْيَة الواقعتين على ضفتيّ نهر الفرات، وما يعرف بتلة طابوس، التي تقع على بعد 13 كم غربيّ مدينة دير الزور، في قرية الشميطية، وهي تتبع لناحية التبني. ويرجع الموقع، بحسب المؤرخين، إلى العهد الرومانيّ.
وهناك أيضاً منطقة الظهرة، وبالتحديد منطقة ناظرة في برّية ريف دير الزور الغربيّ. وتبعد حوالي عشرين كيلومتراً غرب محطة الخرّاطة النفطية. حيث وُجدت عدّة مقابر قيل إنها ليهودٍ عاشوا وماتوا هناك ودفنت معهم أموالهم. وقد تمّ حفر هذه القبور ونبشها ورمي عظامها خارج الحفر. ولكن ليس كلّ من في المقبرة تدفن معهم دفائن ثمينة، بل فقط سيد القوم، حسب ما يقول الباحثون. وهذه عادات القبائل التي كانت تعيش في هذه المنطقة، إذ كانوا يجمعون الذهب ويضعونه عند سيد القوم ويدفن معه كي لا يُسرق من القبيلة أثناء الغزو. ويتمّ الوصول إلى قبر سيد القوم عبر خريطةٍ من الرموز لا يفكّها إلا خبيرٌ أو عارفٌ بالآثار.
***
قبل الثورة السورية، لم يجرؤ أحدٌ على الاقتراب من الموقع الأثريّ في طابوس، لأن مخابرات النظام كانت تضع يدها عليه وتمنع أيّ شخص من الاقتراب منه، بحجّة حمايته من النهب. وبحسب الروايات التي عُرفت من حرّاس الموقع في ذلك الوقت، كانت عملية تنقيبٍ منظّمةٌ تتمّ بإشراف المخابرات، ليتمّ شحن القطع الأثرية المكتشفة إلى ميناء طرطوس، ثم بيعها خارج البلد. وقد عيّن النظام حرّاساً على الموقع وأعطاهم صلاحيةً واسعةً في التعامل مع المتطفلين والمنقبين. ففي عام 2000 قام أحد الحرّاس بإطلاق النار على شخصٍ كان يحفر في الموقع الأثريّ، مما أدّى إلى مقتله، في حادثةٍ شهيرة. ورفع أهل القتيل دعوى ولكن دون فائدة، لأن العقيد سليمان حيدر، المسؤول عن الموقع، كان يقف وراء القضية. كما شاهد أهل المنطقة العقيد سليمان بجانب الموقع أكثر من مرّةٍ بسيارته الخاصّة. وشوهدت سيارةٌ تحمل نمرة الجيش بجانب الموقع بشكلٍ متكرّر. وفي نفس الفترة اعتقل خمسة أشخاصٍ بتهمة التنقيب عن الآثار وسرقة ثروات البلد، منهم (ص. ش) من أهالي بلدة الشميطية، الذي حكم عليه بالسجن لمدّة خمسة أعوامٍ بتهمة تهريب الآثار.
وشرق الموقع المذكور هناك موقعٌ آخر يقع في بلدة زغير شامية، بجانب طاحونة الحرويل، حيث توجد تلةٌ عُثر فيها على أوانٍ فخاريةٍ قديمةٍ وعددٍ كبيرٍ من القطع النقدية في عام 2010، نقلت فوراً لتباع في تركيا بواسطة تاجرٍ من بلدة المسرب.
***
لم تتوقف عمليات التنقيب عن الآثار في ظلّ الثورة، بل ازدادت بسبب غياب الرقابة. وفُتح المجال أمام المنقبين للبحث باستخدام أجهزةٍ إلكترونيةٍ تكشف دفائن الذهب على عمق بضعة أمتارٍ. ولجأ بعضهم إلى إحضار ساحرٍ لفكّ الحرز عن الكنز مقابل نصيبٍ منه. وإذا صعب الأمر على الساحر والجهاز؛ تستخدم الجرّافات الضخمة للوصول إلى الهدف المنشود.
أوّل من مارس عملية التنقيب الجماعيّ العلنيّ بعد الثورة شخصٌ من المسرب يدعى غليص، قام بنبش منطقة حلبية وزلبية بمساعدة كتيبة لصوص، باستخدام جرّافاتٍ وبلدوزرات. ومن المعروف أن هذه الآليات تحطّم قطعاً نفيسةً صغيرة، ولكنها كانت غير مهمةٍ بالنسبة إلى هؤلاء المنقبين الذين يبحثون عن ما هو أثمن، كالتماثيل الذهبية وجرار الفخار الأثرية التي تحوي ليرات الذهب الثمينة.
يقول شخصٌ من أهالي بلدة المسرب: "عثرتُ على قطعٍ أثريةٍ كثيرةٍ قبل عامين. وبعتها بثلاثة آلاف دولار. تقدّر هذه القطع بعشرات آلاف الدولارات، ولكن التاجر غشّني واشتراها مني بثمنٍ قليل. كان من ضمنها تمثالٌ صغيرٌ عثرت عليه في جبل طابوس. وهو على هيئة طفلٍ صغيرٍ وكلّ معالم جسمه واضحة. وهو مصنوعٌ من تراب الذهب".
كانت الفتوى الشرعية المتداولة وقتها أن الآثار تعدّ من دفائن الأرض العامة، وليست ملكاً لأحدٍ، ويحقّ للجميع البحث عنها وبيعها وكسب المال. أما موضوع الإرث الحضاريّ لسوريا فلا يبالي به أحدٌ تقريباً. ويقول المنقب: "يا أخي أنا محتاج وبدي أعيش. وكنز مدفون جوّا التراب، مو حرام يظلّ مدفون؟!". صدرت هذه الفتوى عن بعض شرعيّي الهيئة الشرعية في المنطقة الغربية. وكانت جبهة النصرة تبحث كثيراً في طابوس بالتحديد، حيث كانت لهم معسكراتٌ. واعتاد السكان على سماع أصوات التفجير بشكلٍ يوميٍّ. ساد الاعتقاد حينها أن الأصوات جزءٌ من عمليات تدريب المقاتلين. ولكن، بعد مضيّ الوقت، صرّح بعض عناصر الجبهة بأن الأصوات كانت نتيجة عمليات تفجيرٍ في الأرض بحثاً عن الآثار. وبرّر أحد العناصر ذلك قائلاً: "كنا نشتري بثمنها ذخيرةً لمقاتلة داعش، ولم نضع شيئاً في جيوبنا".
كان أمير جبهة النصرة في الخط الغربيّ يقيم قبل الثورة في السعودية، وقدم إلى سوريا طلباً للجهاد كما يقول. اتضح فيما بعد أن له اهتماماً بالتنقيب عن الآثار. وتواردت أنباء عن أخذه للكثير من القطع الثمينة ليبيعها في تركيا حيث هرب ليقيم لاحقاً. ويذكر بعض المطلعين أن من الآثار التي عثرت عليها النصرة قطعةً ذهبيةً رُسم عليها رأس حاكمٍ من عصر الإغريق، يضع تاجاً على شكل سنابل القمح. كما عثر على رقمٍ فخاريٍّ عليه أحرفٌ لم تُعرف ماهيتها، بالإضافة إلى الأواني الفخارية التي تحوي ليراتٍ ذهبية. وكلّ ذلك فقط في الجانب الغربيّ من تلة طابوس الأثرية، وبمساحة بحثٍ لا تتجاوز الخمسمئة مترٍ مربع، وعلى عمق خمسة أمتار.
***
سُكنت منطقة الريف الغربيّ منذ قديم الزمان. ولذلك فهي تحوي مواقع كثيرةً، منها ما اكتشف ومنها ما لم يكتشف حتى اللحظة. ولذلك عمل تنظيم الدولة الإسلامية على الاستعانة بخبراء مهاجرين للبحث، وقدّم لهم كلّ المساعدات اللازمة. وفي الوقت الحاليّ تم إنشاء فريق عملٍ للبحث والتنقيب، معه آلياتٌ ثقيلةٌ كالبلدوزرات. ويعمل هذا الفريق كلّ يومٍ دون انقطاعٍ تحت إشراف شخصٍ يدعى أبو عمر الأنباريّ. وهو من أهالي بلدة عياش، ولكنه يكنّي نفسه بالأنباريّ. ويساعده عدي السعدي من سكان البغيلية التابعة لمدينة دير الزور.
يحاول التنظيم أن يكون التنقيب سرّياً للغاية، ولكن عناصره يتحدثون عن مكتشفاتهم في جبل طابوس ومنطقة حلبية وزلبية. ومما تردّد الحديث عنه بينهم عثورهم على قطعةٍ ثمينةٍ بيعت بثلاثين ألف دولارٍ أمريكيٍّ، وخمس عشرة قطعةً بيعت كلٌّ منها بعشرة آلاف دولار. أما القطع الصغيرة التي لا قيمة لها، كما يصرّح "الأنباري" لمقرّبيه، فهي تباع بألفي أو ثلاثة آلاف دولار.
يتمّ تصريف الآثار عن طريق مهرّبين لهم علاقاتٌ مع تجّارٍ أتراك، يبيعونها في السوق السوداء بقيمةٍ لا تساوي حتى ثلث سعرها في أوروبا. وفي الآونة الأخيرة شدّدت الحكومة التركية ملاحقتها للتجّار والمهرّبين، فألقي القبض على بعضهم في مدينة أورفا، وتمّت مصادرة القطع التي بحوزتهم. فيما تملص تجّارٌ آخرون من التبعية لداعش ليعملوا لحسابهم الخاص، فأصبحوا بذلك مطلوبين للتنظيم.
لا يستخدم تنظيم الدولة وسائل حديثةً في التنقيب بل الآليات الضخمة. ففي أحد المواقع في طابوس تمّ هدم غرفةٍ من أصل ثلاث غرفٍ تمّ اكتشافها بواسطة البلدوزر أثناء التنقيب. وهذه الغرف مبنيةٌ بطريقةٍ عجيبةٍ، كما يقول أحد عناصر التنظيم. وبذلك لم يقتصر تنقيب داعش على السرقة بل خرّب أماكن أثريةً تعود إلى مئات أو آلاف السنين بطريقته الهمجية. وهذا حال القصر الملكيّ في منطقة حلبية وزلبية، الذي لم يسلم هو الآخر من التخريب على يد التنظيم.
طبعاً سرق النظام الكثير من آثار البلد، ولكنه يعرف أن هناك الكثير أيضاً مما لم يكتشفه أو لم يستطع أن يسرقه لسببٍ ما، كالحرز أو صعوبة الوصول أو وجود السكان المحليين. ودفعه هذا الأمر إلى استهداف فريق البحث في طابوس، التابع لتنظيم الدولة، بغاراتٍ جويةٍ، كان آخرها قبل نحو شهرٍ، دون أن يصاب الفريق بأذى. ويتابع التنظيم بحثه عن الآثار في الوقت الذي تحوّلت فيه مدينة دير الزور إلى آثار... والغاية هي تمويل دولة الخلافة المزعومة.