- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
الإيديولوجيا تراجع كتابة معجم القامشلي .. «سلو وسمعو صار اسمهما هافال سليمان والأستاذ إسماعيل»
ليس للتغيرات التي طالت الحياة العامة في القامشلي علاقة بكيفية إدراك سكانها لأنفسهم ومدينتهم التي ينتمون إليها، أو بماهية التغيير الذي يتوقون للذهاب إليه، ويفصحون عنه قبل ذلك بكل حرية؛ بل للأمر علاقة بقوالب جاهزة مفصلة بمعزل عنهم، ووفق أهواء حزبية تطمح بفجاجة لجعل الفضاء العام جهاز إيديولوجي كبير ينتج نسخاً لا نهائية عن أتباع متلقين ورعية ليس عليها سوى التصفيق.
هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها سوريا بعد عشر سنوات قضيتها في المملكة العربية السعودية، دخلت فيها إلى الأراضي السورية من معبر سيمالكا الحدودي الذي أنشأته قوات البيشمركة بعد قيام الثورة السورية لأغراض إنسانية وتجارية. عندما وصلت هناك تمدد أمامي على نهر دجلة جسر قديم قيل لي إنه عسكري، تصطف قربه مجموعة من الحافلات (باصات) ركبت في أحدها ومجموعة من الناس، وعبرنا فوق النهر لنصل أخيراً إلى الضفة السورية من نهر دجلة.. بدا لي كل شي مختلفاً إلى القامشلي من المعبر عما قبله.
الاختلاف يبدأ من الطريق المليء بالحفر والحواجز، ولا يقف عند صور أوجلان والأعلام الصفراء أو الخضراء التي لا تترك شاخصة شاغرة؛ وبين الحفر والحواجز ونسخ لا متناهية من شارب أوجلان الكث تتناثر ذكريات مصورة عن شبان بالعشرات قيل لي أنهم لقوا حتفهم في مناطق ومناسبات مختلفة، وكان هذا حال مدخل مدينة القامشلي المزدحم الذي وُضعتْ عليه صورة أحد "الشهداء"، وربما سمي باسمه، والاستنتاج الأخير قد تأكد حين سلكنا طريق جسر قناة السويس الذي أخذ طابعاً جديداً وسمي باسم جديد، إذ خلعوا عليه اسم جودي.
صار كل شيء غريباً عني: الصور والشعارات والأسماء والمصطلحات كلها جديدة وبعضها مستفز، فالمدينة تحول اسمها إلى قامشلو، وساحاتها سميت بأسماء قتلى الحركة، والمنطقة برمتها إلى روج آفا. لست أخفي أنني كنت قد سمعت بكل هذه الأشياء، لكن ما أذهلني هو ترسيخ هذه المصطلحات بالعنف البصري والسمعي في أذهان الناس، وعلى ألسنتهم، حتى صار بين الناس وذاكرتهم المرتبطة بالمكان حواجز كثيرة، داخل المدينة وخارجها.
"قوات الأسايش" حلت محل اسم الشرطة، و"الترافيك" محل شرطة المرور، وأنشئت سبع بلديات في مدينة القامشلي، وانقسمت أحياؤها إلى "كومونات" تقوم مقام المخاتير أو المخبرين. هنا كذلك تتابعك عينا أوجلان الغائرتان وابتسامته بمسحة هزيلة من الدكتاتورية المشرقية، وقد أطلق اسمه وأسماء قتلى الحركة على كثير من الشوارع والساحات والمطاحن العامة والحدائق في المدينة، فالمستشفى الذي في آخر الحي باتجاه شارع الكورنيش -حيث كنت أقيم- تحول اسمه من المستشفى الطبي الجراحي إلى مستشفى الشهيد خبات، والساحة المقابلة أخذت ذات الاسم، والحديقة العامة المجاورة صار اسمها حديقة القائد، والمقصود أوجلان الذي تملأ صوره الساحات والشوارع وزجاج السيارات، التي تغيرت لوحاتها هي الأخرى من "الحسكة" إلى لوحات جديدة مثل قامشلو وكركي لكي (الاسم الجديد لبلدة معبدة) وديريك (المالكية)، وتغير اسم الملعب البلدي إلى ملعب 12 آذار إشارة إلى أحداث 2004 بين النظام والأكراد.
أخبرني صاحب السيارة التي أقلتني أنه من حي الهلالية، والذي ناله ما نال المدينة من تغيير في الشواهد والأسماء، فدوار القرموطي أصبح اسمه دوار اوصمان صبري (اسم كاتب كردي كما قال)، وتحول اسم جامع الوحدة إلى جامع قاسمو، وتحول اسم ساحة الهلالية إلى ساحة الشهيد خبات، وساحة الدوار إلى ساحة الشهيد روبار.
صديقي عادل الخضر مدرس سابق ويعمل حالياً مع منظمة إنسانية كمثقِّف صحي، أخبرني أن الوضع تغير كثيراً عما كان عليه قبل الثورة، فبعد سيطرة الحزب الكردي (حزب الاتحاد الديمقراطي) على المدينة، ظهرت طبقة رأسمالية جديدة أدت إلى انزياح كبير للثروات، الأمر الذي سبب شرخاً مجتمعياً كبيراً نظراً لماضي هؤلاء الأشخاص، الذي وصفه عادل بالأسود، ولكنه استدرك أن عملاء النظام بقوا أوفياء لمبادئهم في العمالة، فتغير فقط ولائهم وأصبحوا يعملون لصالح الحزب.
وفي ذات السياق ذكر لي جارنا أحمد شيخموس طالب الهندسة المدنية في جامعة الفرات، أن الكثير من الأشخاص الذين يعرفهم في الحارة انقلبت أحوالهم رأساً على عقب، سلو بائع الدخان في الحي أصبح مسؤولاً مهماً في قوات (ypg) بعدما التحق بدورة "كادر" في جبل قنديل وتحول اسمه إلى هفال سليمان، أما سمعو بائع الغاز فأصبح مفتشاً في "هيئة التربية والتعليم" التابعة للإدارة الذاتية وأصبح اسمه أستاذ إسماعيل، ثم يستدرك "أنا لا أصم الناس، لكن المسألة مسألة اختصاص".
يحز في النفس هجرة الكثير من جيراننا إلى أوروبا، وخصوصاً من المسيحيين، كجارنا الطيب أبو يعقوب الذي تربطني بابنه إبراهيم علاقة صداقة وزمالة دراسية استمرت لسنوات في مدرسة العروبة. يقول أبو سمير صاحب بقالية في الحي، أن أبو يعقوب تعرض لضغوط كبيرة من أبنائه حتى باع كل ممتلكات العائلة وترك المدينة بحثاً عن مستقبل أفضل في السويد، كما فعل العديد من شباب الحي والمدينة حين هاجروا إلى ألمانيا وشمال العراق هرباً من التجنيد الإلزامي الذي فرضته سلطة الأمر الواقع ، بينما هرب إلى تركيا من كان قليل الحظ، مثل صالح العبدالله الذي كان مطلوباً لاستخبارات الحزب لالتحاقه بالجيش الحر مطلع الثورة، فاضطر إلى بيع دراجته النارية واستدانة مبلغ من المال ليدفع ثلاثة آلاف دولار للمهرب حاجي ابن حي العنترية المتخصص بهذا المجال.