الأسواق الجوالة في إدلب .. صمود لكسب العيش

بعدسة الكاتبة

أنتجت الأحداث التي شهدها الشمال السوري خلال سنوات الحرب انعكاسات سلبية على حياة السوريين نتيجة التدهور الكبير في سوق العمل وفقدان الكثيرين لوظائفهم، وتكريس اهتمامهم في البحث عن عمل يقيهم قسوة العيش، لذلك انتشرت أعمال ومهن تتوافق مع الواقع المعاش، منها الأسواق الجوالة التي يسعى أصحابها لتحصيل نفقاتهم المعيشية، وتأمين حاجات الأهالي من الأغذية والسلع وحمايتهم من عناء المسير، ومخاطر القصف المكثف الذي يطال الأسواق والتجمعات بشكل يومي.

تقف الستينية أم أحمد كل صباح أمام باب منزلها في مدينة معرة النعمان تنتظر مرور سيارات الخبز والخضار لشراء حاجات المنزل الضرورية. أم أحمد وغيرها من أهالي المدينة لم يعد بمقدورهم الذهاب إلى السوق بسبب القصف المستمر من قبل النظام السوري وحلفائه الذي يطال الأسواق والتجمعات السكنية، وكل مظاهر الحياة على حد سواء، وعن ذلك تقول أم أحمد: "أصبحت الأسواق الجوالة سبيلنا للتأقلم مع واقع القصف، حيث نشتري حاجاتنا من العربات والشاحنات الصغيرة المحملة بالأغذية والملابس والأدوات المنزلية التي يجوب أصحابها الأحياء طوال النهار طلباً للرزق".

من جانبه البائع حسام المنديل ينطلق في الصباح الباكر، قاصداً سوق الجملة في مدينة سراقب ليملأ صندوق سيارته بجميع أصناف الخضار والفواكه، يتحدث لعين المدينة بقوله: "مع استمرار القصف اليومي على مدن وبلدات ريف إدلب تعطلت أنماط الحياة، مما صعّب على الأهالي الوصول إلى متطلباتهم اليومية، لذلك قررت أن أحمل بضائعي إلى الناس أينما وجدوا، حيث أبيع ما أحمله متنقلاً بين الساحات والأحياء، لتأمين حياة كريمة لي ولعائلتي". ويبين المنديل أن العديد من زبائنه ينتظرون وصوله للحصول على احتياجاتهم اليومية بأسعار مناسبة.

كذلك يستفيد النازحون المقيمون في المخيمات العشوائية من الأسواق الجوالة، حيث تمثل بعد المسافات والطرق الوعرة أكبر عقبة أمامهم عند الرغبة بالبيع والشراء. عدنان العثمان نزح من بلدة سنجار بريف إدلب الجنوبي الشرقي إلى أحد المخيمات العشوائية، يقول: "أضطر للسير على الأقدام لساعات طويلة مروراً بتضاريس شاقة للوصول إلى السوق في مدينة سراقب، لذلك أرغب دائماً بشراء حاجاتي من البائعين الجوالين، وفيها أجد معظم ما تحتاجه عائلتي".

الأوضاع الأمنية المتردية وما رافقها من نزوح وتهجير ساهمت في ضعف حركة البيع والشراء في الأسواق العامة، وعن ذلك يتحدث أحمد العبود وهو صاحب محل لبيع الأدوات المنزلية في مدينة تلمنس بريف إدلب الجنوبي: "حركة السوق سابقاً كانت جيدة، ولكن مع استمرار الحملة العسكرية على إدلب تراجعت بشكل واضح، والسبب ارتفاع الأسعار واستمرار القصف، وتحول الناس للشراء من البائعين الجوالين".

لا يقتصر البيع المتنقل على الرجال فقط، وإنما للأطفال حضور واضح فيه أيضاً، حيث يعمد الكثير من الأطفال في إدلب وريفها لمزاولة هذا العمل، يدفعهم إليه الفقر وغياب المعيل، والرغبة بكسب لقمة العيش. أحد هؤلاء الطفل وليد الصالح من مدينة التمانعة الذي نزح مع أمه وأخوته إلى إدلب، واضطر للعمل كبائع متجول، وعن ذلك يقول: "تعبئ أمي أكياس التوابل بأنواعها وتزنها وتغلفها وتضعها في الصندوق، لأحمله منذ الصباح وأتنقل في أرجاء المدينة لعرض ما أملك، وأعود في المساء متعباً وقد جنيت حوالي 500-1000 ليرة سورية بالكاد تكفينا لشراء متطلبات المنزل".

يضيف الطفل بحزن: "تركت المدرسة بعد وفاة والدي منذ سنتين بغارة جوية، وأصبح علي أن أؤمن المصروف اليومي لأمي وأخوتي الأربعة، باعتباري الابن الأكبر، وعلي أن أتحمل المسؤولية، وأي عمل خير من السؤال كما تقول أمي دائماً".

ورغم بساطة العمل في مجال البيع المتجول، إلا أنه لا يخلو من المخاطر بحكم السير في شوارع وأحياء تتعرض للقصف اليومي والعشوائي، واضطرار الباعة للوقوف في الشوارع والحارات لساعات طويلة تحت حر الصيف وبرد الشتاء.

الخمسيني أبو عادل من مدينة معرة النعمان لجأ للعمل المتجول لإعالة أحفاده بعد استشهاد والدهم، لكنه تعرض لإصابة بالغة أدت إلى بتر قدمه أثناء عمله في بيع الفول والذرة المسلوقة في الأزقة والحارات وعلى أبواب المدارس، وعن ذلك يتحدث لعين المدينة بقوله: "أصبح العمل في ظل الفقر الذي فرض علينا ضرورة لاستمرار الحياة، والسبيل الوحيد للتأقلم مع ظروفنا الصعبة، ولكن حقد النظام السوري وصواريخ طائراته تطال البشر والحجر، لتعطيل كل مظاهر الحياة في المناطق الخارجة عن نفوذه".