الأخطاء الطبية ما زالت تعطب أهالي دمشق والعسكر متحكّمون

بعد إصابته بنوبة ألم شديدة أسفل ظهره، توجه صالح (20 عام من دمشق) إلى مستشفى خاص قريب من بيته، حيث أعطاه الأطباء المتواجدون حينها بعض الأدوية المسكنة، وأكدوا له أنه بحالة جيدة ولا داعي للخوف فهي مجرّد وعكة عابرة، ولكن بعد يومين عاد الألم بشكل أحدّ، وريثما وصل إلى مستشفى خاص، وأحاله الأطباء إلى مستشفى عام بسبب إمكانية احتياجه لعمل جراحي لا يستطيع تحمّل تكلفته، كانت كليته قد تعطلّت وجرى فيما بعد استئصالها بعمل جراحي.

يقول صالح لعين المدينة: "انتظرتُ بعد وصولي إلى المستشفى العمومي نحو أربع ساعات ريثما تم تحويلي إلى الفحص، على الرغم من أن حالتي إسعافية، وفي هذه الأثناء كان الألم يشتد كثيراً، وأصرخ من شدته، فيأتي ممرض يعطيني إبرة مسكنة، إلى أن تعطلت الكلية تماماً وتم استئصالها". مشيراً إلى أن الوقت الذي استغرقه الكادر الطبي لإدخاله إلى الفحص كان بدون أسباب وجيهة كوجود حالات أشد خطورة، وإنما الفوضى والبيروقراطية المُفتعلة حسب وصفه.

راجع صالح طبيب اختصاصي آخر ليشرف على وضعه الصحي بعد إنهاء العمل الجراحي، لكن الأخير أكد له أن دواعي استئصال الكلية لم تكن واردة بالنسبة إلى حالته، وأن التدخل العلاجي والدوائي السريع كان يمكن أن يحلّ المشكلة ويجنّبه الاستئصال.

صالح ليس الحالة الأولى التي تتعرض لمثل هذا الخطأ الطبي الفادح في دمشق خاصة بعد اندلاع الثورة، فالكثير عاشوا ذات الظروف وقد رصدت حالات بعضهم تقارير وتحقيقات صحفية، بعد تحول هذا القطاع إلى مرتع من الفوضى والإهمال، وحقل تجارب لحديثي التخرّج من أبناء مؤيدي النظام وأزلامه، وخرج قسم آخر عن الخدمة المدنيّة، فيما خُصّص قسم لا يستهان به من المستشفيات، الأدوية، والخدمات الطبية الجيدة لعلاج جرحى الجيش ومرضى النظام الدرجة الأولى، وتأمين الجودة للأخيرين حتماً يتطلّب سحبها/ تقليصها من المستشفيات العادية، إذ "تُصادَر الإمدادات الطبية الحيوية على نحو روتيني من قوافل الإمدادات المشتركة بين الوكالات الإنسانية المتجهة إلى الأماكن التي يتعذر الوصول إليها والأماكن المحاصرة" كما بينت منظمة الصحة العالمية آذار العام الفائت، وقد وثقت وقتها مصادرة "السلطات أكثر من 70% من الإمدادات الصحية المتجهة إلى الغوطة الشرقية وأعادتها إلى مستودع المنظمة. والمواد التي صودرت هي ذات ضرورة ملحّة لإنقاذ الأرواح والحد من المعاناة البشرية".

إضافة إلى أن "هناك متاجرة بالأدوية المخصصة للمشافي الحكومية، والأجهزة التي تتعطل لا يتم صيانتها، وتسرق بعض قطع من الأجهزة وتباع للمستشفيات الخاصة، كذلك الأمر بالنسبة للمساعدات المرسلة من الأمم المتحدة فهي غالباً تُعامل بنفس الطريقة"، وفقَ أطباء منشقين عن النظام.

يقول الطبيب السوري أحمد الدبيس، لعين المدينة: "ناهيكَ عن الفوضى والفساد وانعدام المراقبة والمحاسبة والتغطية على أخطاء الأطباء الذين لهم ارتباطات مع النظام، وسرقة الأدوية وتخفيف عياراتها وكثافتها لاستخدامها لأغراض أخرى، أو بيعها، أو نقلها إلى مستشفيات أخرى لتطبيب مرضى النظام وأقارب الضباط، فإن النظام التعليمي بمجمله تراجع والطلاب لا يخضعون لشروط تعليمية حقيقية، ولا يواكبون البحث العلمي الطبي الحديث، ويتخرجون من الجامعات ويباشرون العمل دون تأهيل أو تدريب، في حين ارتفع الغش والترفيع بناءً على الواسطات، أضف إلى ذلك هجرة عدد كبير من الأطباء المحترفين، وأعداد كبيرة من الكوادر الطبية المؤهلة والخبيرة بما فيها المخبريّين، الممرضين والصيادلة".

نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريراً منذ عامين يؤكد هجرة عدد كبير من الأطباء: "الأطباء والممرضات والجراحين وأطباء التخدير وغيرهم من المهنيين الصحيين غادروا البلاد. في عام 2009، كان هناك 29927 طبيبًا في سوريا. بين عامي 2011 و2015، غادر ما يقدر بنحو 15000 طبيب البلاد، تقول الصحيفة إن التأثير على المدنيين عميق".

أما السبب الأكثر تأثيراً في تدهور أعمال معظم المستشفيات، حسب الدبيس، هو سيادة القرار فيها للمؤسسة العسكرية، وغياب دور وحضور المؤسسة الطبية المتمثلة بوازرة الصحة ومديرياتها، "القرار في كلّ المنشآت الطبية دون استثناء هو للعسكر وليس للأطباء، ما يؤدي إلى أخطاء ترتقي إلى كوارث على مستوى أخلاق المهنة، وهي ليست دائماً غير مقصودة، فبعض حالات الإهمال/ الخطأ تكون كيدية ومقصودة بسبب أن النظام الطبي بمجمله يخضع للمعايير الطائفية للعسكر الإداريين والمتحكمين، فيكون التعامل مع مرضى غوطة دمشق النازحين أو حمص أو غيرها من المناطق التي انتفضت ضد النظام بطرق انتقامية".

يؤكد أطباء منشقون أن عدد من المستشفيات العامة والخاصة المدنيّة تحولت إلى عسكرية، وهذه العملية استغرقت وقتاً، فهي بدأت منذ اندلاع الثورة، وارتفعت مع ازدياد العمليات العسكرية، وبلغت ذروتها أثناء اقتحام الغوطة الشرقية، فالأولوية صارت لجرحى النظام، غير أن هذه المستشفيات بعد انتهاء المعارك أكملت عملها بنفس الطريقة وصارت شبه مخصّصة لأهالي وأصدقاء النظام.

أضاف الدبيس: "بالنسبة للأخطاء الطبية الكثيرة والقاتلة أحياناً، فإن تقديم شكوى لا يجدي نفعاً، بل على العكس تماماً من الممكن أن ينقلب على المريض أو أهل الضحية، ويحوّل/ يحوّلون بعدها إلى السجن، لأنه من وجهة نظر المؤسسة العسكرية المتحكمة بالقرارات الطبية يخلّ بمنظومة العمل الخاصة بها، لذا يتجنب معظم الأهالي تقديم الشكاوى تفادياً لمزيد من الضرر".

يشتكي العديد من أهالي وساكني العاصمة دمشق من تردي الخدمات الطبية، وانعدام الاهتمام بالمرضى، وخاصة ذوي الأمراض المزمنة، فهم لا يجدون الخدمة الضرورية ولا الدواء الفعال، وليس لديهم أيّ خيارات أخرى. وقد أشارت تقديرات الأمم المتحدة إلى أن "أكثر من نصف مليون سوري يعانون من إصابات موهنة تتطلب رعاية طويلة الأجل"، وفضلاً عن ازدياد تفشي الأمراض المعدية، تؤكد الأمم المتحدة أن الأمراض المزمنة التي كان يمكن السيطرة عليها، مثل مرض السكري وفشل الكلى وأمراض القلب، تتصاعد إلى أمراض تهدد الحياة. و"عندما تنتهي الحرب، ستحتاج سوريا إلى أطباء أكثر من أي وقت مضى، لكن احتمال عودة الأطباء من المنفى ضئيل، كلما طال أمد الحرب سيكون من الصعب عليهم التخلي عن حياتهم الجديدة".

تطرقت منظمة الصحة العالمية في تقارير متعددة لها إلى أن الأوضاع الطبية في سوريا كارثية، وفي مناطق سيطرة النظام أشد تعقيداً: "الصحة العالمية تقدر أنه نتيجة التعرض الطويل للعنف، يعاني واحد من كل 30 شخصاً في سوريا من اضطراب عقلي شديد الحالة وواحد على الأقل من كل 5 يعاني من حالة صحية نفسية خفيفة إلى متوسطة. أصبح الفشل الكلوي، وبعض أنواع السرطان -الحالات التي كان من المفترض أن تدار من قبل متخصصين في العيادات المتخصصة- بمثابة أحكام بالإعدام. عادت الأمراض التي تم القضاء عليها تقريبًا أو كليًا".

جميع التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية التي اطلعت عليها عين المدينة واستطاعت الوصول إليها فيما يخص القطاع الطبي في دمشق قديمة، ولا يوجد أي تحديثات أو إحصاءات جديدة حول هذا القطاع وسير عمله، مع العلم أن الدعم الطبي من قبل الأمم المتحدة وفروعها يصل بشكل متواتر إلى دمشق وفقَ تقارير صادرة عنها، كما أن معظم الذين سأَلَتهم عين المدينة من الجالية السورية المتواجدة في تركيا وفي بلاد لجوء أخرى عن تواصلات لمن كانوا يعملون في القطاع وانشقوا أو هاجروا أو حتى ما زالوا يعملون في دمشق أبدوا عدم اهتمامهم، وعدم رغبتهم في الحديث عن أي موضوع مرتبط بدمشق حيث يسيطر النظام.

حالة الاستغراق في العداء من قبل الإعلام المعارض لمناطق النظام وامتناعه عن الخوض في أي قضايا أو مشكلات اجتماعية وإنسانية يعاني منها ملايين السوريين القاطنين في تلك المناطق يشير إلى محدودية وقصر نظر ينبغي تسليط الضوء عليها.