إطلالة على ريف دمشق الراهنة .. أبناء مدن التسويات يواجهون نقمة النظام بعد سنوات طويلة من الحرب

حاجز لقوات النظام في مدينة دوما - رويترز

يبدو المشهد في الزبداني وداريا، وفي دوما وبقية مناطق الغوطة الشرقية -وهي ما بات يدعى بمدن التسويات- قاتماً جداً، إذ تعيش هذه المناطق وسط بحر من الفوضى والإتاوات وغياب الأمن والخدمات: يسير السكان على شوارع مليئة بالحفر، وينامون ضمن أبنية سكنية متهالكة، ويعيشون وسط الركام، في ظل خدمات معدومة، وجمود يطال فرص العمل ومعظم نشاطات التجارة والزراعة والاستثمار.

كلما دخل المهندس الكهربائي أبو جميل مدينته داريا التي تقع على تخوم دمشق، عائداً من وظيفته الحكومية، يشعر بانقباض في الصدر. "أدخل إلى عالم آخر مختلف" يردد أبو جميل في شيء من الحيرة والأسى. ترك منزل العائلة الريفي الكبير مفضلاً شراء شقة في القسم الوحيد الذي نال خدمات بسيطة في المدينة. "تعج المدينة بالسكان، وبالدمار في كل مكان.. وليلاً ننام باكراً لأن الظلام يعم الشوارع". 

 أما الشقيقان أسعد ونذير وهما طالبان في الثانوية العامة بمدينة دوما التي لا تبعد عن العاصمة سوى بضعة كيلو مترات أيضاً، فيضطران إلى الاستحمام وتبديل ملابسهما يومياً كلما عادا من المدرسة إلى المنزل بسبب "حجم الغبار المتطاير من المنازل المدمرة".  

 كانت هذه المناطق التي تقع ضمن محافظة ريف دمشق بمثابة الخنجر الذي أوجع خاصرة النظام على مدار السنوات الأطول من عمر الثورة.

لذلك سعى النظام منذ اللحظات الأولى التي بسط خلالها سيطرته عليها تباعاً، بدءاً من داريا صيف العام 2016 وانتهاء بدوما وبلدات يلدا وببيلا وبيت سحم في النصف الأول من العام 2018، إلى الانتقام من سكان هذه المناطق، سواء بشن حملات الاعتقال، أو بحرمانها من الخدمات، أو الاستيلاء على الأراضي والممتلكات.

 كهرباء بالقطارة

هناك فارق كبير بين ساعات تقنين التيار الكهربائي في مناطق المعارضة السابقة بريف دمشق وبين نظيراتها من مناطق المحافظة، فعندما يكون التقنين ساعتي كهرباء مقابل 3 ساعات في المناطق الأخيرة، يشكو سكان مدن التسويات من عدم حصولهم سوى على ساعة أو ساعتين في اليوم من الكهرباء.

 تقول وداد التي تقيم في مدينة داريا أن جل اعتماد سكان المدينة على ألواح الطاقة الشمسية، ومولدات الكهرباء العاملة على الديزل أو المازوت.

وتضيف لعين المدينة بأن أزمة الكهرباء التي تشهدها مدينتها لا تتمثل في التقنين الجائر فقط، بل في عدم وصول التيار الكهربائي إلى معظم أحياء المدينة، خاصة مع غياب جميع مقومات الكهرباء من أعمدة وأسلاك وساعات تم نهبها من قبل قوات النظام بعد دخولهم المدينة.

 وفقاً لوداد، تم إيصال التيار الكهربائي إلى المنطقة الممتدة من مدخل دمشق وحتى دوار شريدي وهي المنطقة الوحيدة المخدمة نسبياً في المدينة، فيما يعيش السكان في ما تبقى من أحياء بدون أي خدمات تذكر.

 في دوما يعاني السكان من أعطال لا تنتهي تطال التيار الكهربائي، في ظل تقنين مماثل لمدينة داريا يمكن تعميمه على بقية مدن التسويات بالغوطة الشرقية والغربية ومناطق جنوب العاصمة. يقول عدنان شارحاً وضع الكهرباء في مدينته دوما، أن الكهرباء قضت على معظم ما يملكه من أجهزة كهربائية في المنزل بسبب انقطاعاتها المتكررة خلال الساعات التي يفترض وصول الكهرباء فيها. 

ويضيف لعين المدينة "نحصل على ساعة كهرباء كل عشر ساعات، تنطفئ الكهرباء في هذه الساعة مرات كثيرة بسبب الأعطال المتكررة دون حلول حقيقية من المعنيين".

 رؤساء بلديات سماسرة 

لأن مناطق ريف دمشق التي شهدت معارك ضارية ضد قوات النظام أفرزت العدد الأكبر من المعارضين المغضوب عليهم، فقد شكلت هذه القضية فرصة كبيرة لرؤساء بلديات هذه المناطق لتحقيق مكاسب كبيرة من ممارسة مهنة تجارة العقارات، التي تخص المعارضين ممن هجروا خلال عمليات التسوية التي جرت بين عامي 2016 و2018.

 وعادة ما يتواصل مسؤولو البلدية مع أهل المهجر أو أقاربه لحثهم على بيع العقارات التي يمتلكها، وقد يقدم المسؤولون عرضاً سعرياً مع زبون جاهز للشراء، فيما يتواصل الأقارب مع المالك الأصلي وتتم ترتيبات معينة بالتفاهم مع أحد المحامين للحصول على وكالة عامة تخولهم التصرف بالممتلكات من عمليات بيع ونقل ملكية.

 وبحسب المعلومات التي أمكن جمعها من الأهالي، يحصل المسؤولون على أرباح كبيرة من عمليات بيع العقارات، إذ يصرون على لعب دور الوسيط بين البائع والشاري، ويكسبون مبالغ طائلة من فارق السعر، فهم يشترون العقار بمبلغ ويبيعونه بمبلغ أكبر، وفقا لشهادات أدلى بها سكان من ريف دمشق.

 بنى تحتية متهالكة

تغيب معظم أسس البنى التحتية التي تضررت أو اختفت تماماً بفعل المعارك والقصف المنظم الذي طالها من جهة النظام.

 ويشكو الأهالي من الطرقات المحفرة، وسوء عمليات إصلاح الصرف الصحي الذي أدى إلى اختلاطه بشبكات مياه الشرب في مناطق عديدة مثل داريا ومعضمية الشام، بينما تغيب أسلاك الهاتف وأبراج الاتصالات، وفي حال جرت أي من محاولات الترقيع التي تخص البنية التحتية لمنطقة ما، فتكون أكلاف عمليات الإصلاح من جيوب الأهالي، حتى اعتادت صفحات المجالس المحلية لهذه المناطق على فيسبوك إسداء الشكر للمتبرعين المحليين على تقديم أغطية صرف صحي لهذه المنطقة، أو ترميم مدرسة شرعية في منطقة أخرى، أو تنظيف الشارع الفلاني في قرية ثالثة.

 يقول زهير أحد سكان مدينة دوما لعين المدينة: "هذه المدينة مغضوب عليها إلى يوم القيامة، لأن الحكومة لا تسامح من يقف في وجهها".

ويضيف بأن مدينة دوما لا تزال تعاني من نقص في معظم الخدمات مثل مياه الشرب التي يشتريها السكان من الصهاريج أو يستخرجونها من الآبار، كما يعيش السكان في ضغط نفسي كبير بسبب حواجز المدينة التي تتبع لفروع أمنية عدة وتمارس عمليات ابتزاز تطال الداخل والخارج للحصول على إتاوات ورشاوى.

 ترحيل الأنقاض على حساب الأهالي

تقول مصادر أهلية لعين المدينة أن عمليات ترحيل الأنقاض تترافق عادة مع عمليات نهب مواد البناء الصلبة التي لا تزال صالحة للاستخدام الموجودة خارج وداخل الأبنية.

 وبينما تعمل الآليات التي تشرف عليها بلديات النظام في هدم وترحيل الأبنية والمنازل المدمرة بسبب القصف، تقوم ورشات أخرى بالبحث عن الحديد ضمن الكتل الإسمنتية مثل الأسطح وأعمدة الأبنية، إضافة إلى السراميك والبلاط والرخام المتبقي من عمليات التعفيش السابقة.

 وتضيف هذه المصادر أن عمليات ترحيل الأنقاض بحد ذاتها تعد ذات أكلاف كبيرة ترهق كاهل السكان، إذ يتقاضى مسؤولو البلديات مبلغاً يتراوح بين 100 وحتى 300 ألف ليرة لقاء عمليات الترحيل عن كل بناء طابقي أو منزل أو شارع، وتختلف هذه المبالغ تبعاً لحجم ومكان العقار. في حين لا يتم التقيد بتنظيف المكان تماماً من الأنقاض والركام من قبل ورشات الترحيل، التي تترك المكان عادة بعد نهب مخلفات البناء الصالحة وترحيل قسم كبير من الركام، وليس الركام كاملاً.

 منشار الرشاوي

يمكن القول أن العيش وسط المجال العام في معظم مناطق النظام يعتمد على الإتاوات والرشاوى كنوع من البيروقراطية المتعارف عليها، لكن منشار الإتاوات يضرب أكثر في الجذوع المتآكلة لمدن التسويات بريف دمشق بحيث يعد مسؤولاً عن جمود غير مسبوق في كافة النشاطات التجارية والصناعية والزراعية.

 وتقتنص الحواجز المتمركزة على مداخل المدن جميع الفرص لتحقيق مكاسب مادية على حساب مواطني هذه المناطق، وتشمل الإتاوات النقود والمنتجات الزراعية والسلع، وتتفاوت من حيث القيمة تبعاً لحجم "الخدمات المدفوعة": وهي عبارة يمكن تعميمها على أي نشاط يقوم به السكان، من مجرد دخول أو مغادرة مناطقهم، إلى السماح بمرور البضائع من وإلى المنطقة.

 تثبيت مبدأ الخدمة المدفوعة، بشكل ضمني، جرى منذ اللحظة الأولى التي بدأ خلالها الأهالي بدخول مدنهم بعد سنوات من النزوح. 

يوضح مروان أحد سكان ريف دمشق، أن كل نشاط بحاجة إلى دفع المال في مناطق التسويات. ويضيف لعين المدينة أن الإتاوات الأولى التي دفعها أهالي المناطق المغضوب عليها كانت عند السماح بدخولهم منازلهم لتفقدها، ثم تطورت لتشمل السماح بإخراج بعض الأمتعة الشخصية وما تبقى من أثاث، وفي مرحلة لاحقة صار الدفع روتينياً لقاء دخول الأشخاص الذين لا يمتلكون موافقة أمنية، ومن أجل تمرير لوازم البناء والإكساء، والسلع والبضائع، وإخراج المنتجات الزراعية الضئيلة نحو سوق الهال بدمشق.

 مصادرة أملاك المطلوبين والمعتقلين

يشكل الاعتداء على ممتلكات المعارضين أحد أبرز فصول المأساة التي تعيشها مناطق التسويات بريف دمشق. ويؤكد مهجرون عديدون خلال حديث لعين المدينة أنهم تفاجؤوا -عندما أرادوا بيع عقاراتهم بواسطة أقارب يعيشون في المنطقة- بوجود إشارة الحجز على هذه الممتلكات.

 توضح ديانا وهي زوجة أحد المعتقلين، كيف غدت بلا أرض أو منزل أو سيارة، وذلك بعد فرض الحجز الاحتياطي عليها من قبل النظام. وتقول لعين المدينة: "كانت صدمة كبيرة.. فقدت زوجي الذي تم قتله تحت التعذيب في المعتقلات، وها قد فقدت كل ما كنا نمتلكه".

 ويشير محمد وهو مهجر من ريف دمشق يقيم في إدلب خلال حديث لعين المدينة، إلى أن النظام فرض الحجز على منزله، موضحاً أنه علم بهذا الأمر من أحد أقاربه خلال الترتيبات التي كان يجريها لنقل ملكية المنزل إلى أحد المشترين.

 إقدام النظام على استملاك ممتلكات معارضيه في المنطقة نشّط حركة بيع العقارات من قبل المهجرين نتيجة تخوفهم من ضياع منازلهم وأراضيهم الزراعية، ما جعلهم يبيعونها بأبخس الأثمان.

 باع أبو إبراهيم وهو من مدينة الزبداني منزله بمبلغ لا يتجاوز 5 آلاف دولار، ويشير إلى أن قيمة المنزل كانت تصل قبل الثورة إلى 20 ألف دولار، لكن القلق من إجراءات النظام جعله يقبل بهذا السعر ف"الرمد أخف من العمى" كما يردد خلال حديث لعين المدينة.

و بخلاف الأكلاف المرتفعة لإعادة بناء وترميم ما دمره النظام في ريف دمشق، يشكو السكان الراغبون بتأهيل منازلهم من العراقيل التي يضعها النظام أمامهم بحجة تطبيق المرسوم التشريعي رقم 40 للعام 2012، الذي ينص على الإزالة بالهدم لكل الأبنية المخالفة مهما كان نوعها وموقعها وصفة استثمارها أو استعمالها، وترحيل الأنقاض على نفقة كل من كانت المخالفة لمصلحته. كما يفرض غرامة مالية من ألفي ليرة سورية إلى عشرة آلاف ليرة سورية، عن كل متر مربع على كل من تثبت مسؤوليته عن المخالفة، إضافة إلى حبس كل من تثبت مسؤوليته من ثلاثة أشهر إلى سنة.