أربع صورٍ في «حربية»

واجهة المحل مملوءةٌ بصورٍ منسوجةٍ على القماش. سبق ورأيت محلاتٍ في غازي عنتاب تعرض نماذج من هذا الفن اليدويّ. ولم ألتفت في زيارةٍ سابقةٍ إلى «حربية» -قرب أنطاكية- إلى صور المشاهير المصنوعة بهذه الطريقة. هذه المرّة، ثمة ما شدّ انتباهي وجعلني ألتفت: بين عديد صور نجوم الفن والرياضة والسياسة لمحتُ صورة بشار الأسد!


وقفت أتأمل مع شيءٍ من الاستغراب، رغم معرفتي المسبقة بأن قسماً من عرب لواء إسكندرون ينتمون إلى المذهب العلويّ (النصيريّ) ومواقفهم معلنةٌ في تأييد السفاح السوريّ. بل أعرف أن شباناً منهم التحقوا بتشكيلات الشبيحة في الساحل السوريّ، وخاصةً ما يسمّى «المقاومة السورية» التي كان يقودها معراج أورال (علي كيالي) قبل مصرعه مؤخراً. وقدّمت عوائل لوائيةٌ من أصولٍ سوريةٍ «شهداء» دفاعاً عن نظام بشار الكيماويّ. مع ذلك أثار استغرابي أن تُعرض صورةٌ لهذا الكائن الذي يجمع في بروفايله بين القاتل المحترف المتوحش، والمعتوه التافه، والعبد الوضيع الذي يفتقد الكرامة، والكذاب المحترف الذي لا يرفّ له جفن، في محلٍ تجاريٍّ في منطقةٍ سياحية، بين صور شخصياتٍ لها شعبيتها بسبب قيمتها الاجتماعية أو إنجازاتها... وذلك خارج سوريا، حتى لو كان في «اللواء السليب»!

 

لكن دهشتي ازدادت أكثر حين رأيتُ أن صورة السفاح تجاور ثلاث صورٍ أخرى، في إطارٍ واحدٍ يفصل الأربعة عما يحيط بها من صورٍ كثيرةٍ لنجومٍ آخرين. وهي على التوالي: القائد الطلابيّ اليساريّ الشهير دنيز غيزمش الذي يعرف بـ«غيفارا تركيا»، وقد أعدمته السلطة الانقلابية لسليمان دميريل في العام 1971، مع رفيقين آخرين من قادة «الجيش السري لتحرير تركيا».. 


و«الإمامو علي» الذي تزين صورته بيوت علويي تركيا ودور عبادتهم المسماة «جم أفي» (دار الجمع، أي الجامع)..


وصلاح الدين دمرتاش، رئيس حزب الشعوب الديموقراطيّ، الذي يعتبر الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني، وله في البرلمان الحاليّ 59 نائباً، معظمهم مهددٌ برفع الحصانة البرلمانية عنهم وطردهم خارج البرلمان بتهمٍ أبرزها «الترويج لمنظمةٍ إرهابية» مقصودٌ بها حزب العمال الكردستانيّ الذي تخوض ضده قوات الحكومة، منذ عام، حرب كسر عظم.


الصور الأربع، إذاً، تخاطب جمهوراً محدداً وحساسيةً اجتماعيةً واحدة. التاجر هو أفضل من يفهم بـ«ما يطلبه الجمهور»، جمهور الزبائن، ويعرض بضاعته بالطريقة التي يخاطب فيها الجمهور المستهدف بأنجع ما يمكن. وهذا ما فعله بائع الصور للسياح حين وضع صور نجومنا الأربعة جنباً إلى جنب. ذلك أن من يصوّت لدمرتاش في الانتخابات يحب الإمامو علي، ويستمدّ من سيرة غيفارا تركيا وشهيد مقاومتها اليسارية معاني البطولة والنضال والتضحية، ليتجسد كل ذلك، في نهاية المطاف، برجلٍ (بشار الأسد) بات الرمز المعاصر الحيّ للمقاومة الوطنية ضد الإمبريالية الأميركية، والكفاح العلماني ضد جيوش الظلام من التكفيريين.


ليس هناك تطابقٌ كاملٌ بين شعبيات كلٍّ من الشخصيات الأربع، إذا أخذنا في الاعتبار أن تقاطع العلويين والكرد في الاجتماع التركيّ لا يحتل إلا مساحةً صغيرة، مقابل أكثريةٍ سنيةٍ لدى الكرد وأكثريةٍ تركيةٍ لدى العلويين. لكن علي بن أبي طالب شخصيةٌ تاريخيةٌ محبوبةٌ لدى عموم المسلمين، سنةً وشيعة، كرداً وأتراكاً. في حين تجمع بين دنيز غيزمش ودمرتاش علمانيتهما، وبين الأول وبشار الأسد عداؤهما للإمبريالية الأميركية، وبين دمرتاش والأسد عداؤهما للرئيس التركيّ رجب طيب أردوغان.


منذ سبعينات القرن الماضي، ازدهرت التيارات اليسارية في تركيا في البيئات الاجتماعية العلوية أكثر من غيرها. كان اليسار عصرذاك يحمل قيماً تحرريةً اجتذبت كثيراً من الشبان العلويين، بسبب تهميش المكوّن العلويّ وشعوره بالمظلومية منذ عهد السلطان سليم. ولم تنصف جمهورية أتاتورك العلمانية هذه الأقلية المذهبية، بل ظلت –هي والكرد– في أدنى سلم التراتبية الاجتماعية في النظام الجديد. وقد انبثقت حركة عبد الله أوجالان من رحم اليسار التركيّ وابتعدت عنه، لاحقاً، بسبب شوفينية هذا اليسار في مقاربته للمسألة الكردية. لكن صعود حزب العدالة والتنمية، في 2002، هو الذي وحد جناحي المظلومية الكردية والعلوية من جديد، أمام الخصم الإسلاميّ المشترك. وهكذا استطاع حزب دمرتاش أن يستقطب أصواتاً من خارج قاعدته الاجتماعية الكردية أيضاً، الأمر الذي ساعده على تجاوز حاجز العشرة في المئة ودخول البرلمان في حزيران 2015.


الحزب الكرديّ حزبٌ معاصر، لا شيء يربطه بالحساسية اليسارية لعقد السبعينات، وليس لديه عداءٌ ضد أميركا. بل إن الدلال الذي حظي به PYD السوريّ لدى أميركا، في السنتين الأخيرتين، فعل فعله في حزب دمرتاش. لكن العداء مع حزب العدالة والتنمية، وأردوغان بالذات، استقطب كلّ كارهي الحكومة، وبينهم بقايا اليسار الذي ما زال يتعيش على إرث غيزمش ورفاقه.