- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
«مفاعل الكُبَر» والتضخيم الإعلامي «الإسرائيلي»
في ساعة متأخرة من ليل الخامس من أيلول عام 2007، اتصل بعض الأصدقاء من حلبية وزلبية بأهاليهم ليسألوا فيما إذا كان هناك أخبار عاجلة عن دير الزور على القنوات الإخبارية، عرفنا بعدها أن هناك طائرات، يُعتقد أنها «إسرائيلية»، قصفت «جبال» زلبية ليلاً. وفي 21 آذار 2018، أعلنت وزارة الدفاع «الإسرائيلية» تبنيها لقصف ما سُمي «مفاعل الكُبَر» عام 2007، عبر ثمان طائرات من طراز (F15- F16) ألقت 17 طنّاً من المتفجرات باستخدام قنابل موجهة بالليزر.
الكُبَر لم يكن اسم المنشأة. الأخيرة تنتمي لجبال زلبية، لكن قربها من قرية الكُبَر، وادعاء «إسرائيل» بأنها مفاعل نووي، جعل الإعلام يسميها «مفاعل الكُبَر».
تعتبر حلبية وزلبية منطقة اصطياف شعبية، وتزدحم بصيادي السمك والمصطافين والسياح في الربيع. فهي، بالإضافة للقلعتين الرومانيتين، تحتوي على سلسلتي مرتفعات متقابلتين، تحضنان نهر الفرات في مشهدٍ بديع، تدعى في المنطقة جبال، ترتفع على هضبة من البازلت. وأثناء مخيماتنا الصيفية على شاطئ حلبية كنا نسمع دوي تفجيرات من جهة جبال زلبية، لطالما اعتقدنا أن لها علاقة بالبحيرة الصناعية التي كان النظام يخطط لإنشائها في تلك المنطقة، واعتدنا عليها مع مرور الوقت.
قامت الثورة وأنا في دورة الاختصاص من الخدمة العسكرية الإلزامية. وفي حزيران 2011، تم فرزي كضابط صف إلى قطعة عسكرية، سألقبها بـ «التحصينات» حفاظاً على المصلحة الوطنية السورية. هناك ملأتُ ثلاث استمارات متطابقة عني وعن أهلي وأقاربي، تم إرسالها إلى ثلاث جهات مخابراتية مختلفة. ومضت عشرة أيام بعدها وأنا بدون عمل، أحضر الاجتماع الصباحي، وأتسكع بين المكاتب باقي أوقات الدوام، وحين شعرت بالضجر سألت بعض «الرفاق» عن عدم تعييني، فأخبروني أن الإدارة تنتظر نتائج المسح الأمني، الذي قد يبعدني عن «التحصينات»، أو قد يثبتني في الإدارة، أو يرسلني إلى المشاريع. وفعلاً بعد خمسة عشر يوماً جاءت الموافقة على أن يتم تعييني في مبنى الإدارة.
وخلال تلك الفترة كان هناك غضب وهمز ولمز من قبل الضباط وضباط الصف ينال من المقدم المنشق حسين الهرموش، اعتقدتُ بسببه بأن النظام قلق ومحرج من الهرموش لأنه أعلى رتبة منشقة حتى ذلك الوقت.
كانت السرية تلفّ مشاريع «التحصينات»، فيُوضع لها أسماء وهمية، ولا يُشار إلى مواقعها في المراسلات. وذكر بعض «الرفاق» أن هناك مشاريع تفقّدها بشار الأسد بنفسه، وأن «التحصينات» تخضع مباشرة لمراقبة المخابرات العسكرية، والمخابرات الجوية، وأنها على علاقة مباشرة بالقصر الجمهوري عبر ضباط ارتباط من القصر.
قضيتُ 15 شهراً في «التحصينات» قبل أن أنشقّ، فهمتُ فيها أن المشاريع تتعلق بالأنفاق والتحصينات في الجبال، وكان تقديري -وما زال- أن هذه البُنى الناتجة تشكّل عوامل قوة لسوريا الدولة، وليس لسوريا الأسد، لذا فإن الحديث عن تفاصيل المشاريع ما هو إلا طعنة في الوطنية السورية، سواء اختلفنا أو اتفقنا مع نظام الأسد، لكن الحديث بتفصيل أكثر عما تم كشفه قد يعطي صورة أوضح عن مشروع الكُبَر.
في أيلول 2015، بثّ «جيش الإسلام» مقطعاً مصوراً لقيادة الأركان الاحتياطية في منطقة عدرا، كان قاد استولى عليها بعملية خاطفة انسحب بعدها. ظهر في التصوير شبكة أنفاق ضخمة تسير فيها السيارات، تؤدي إلى مكاتب مختلفة وغرف عمليات ومكتب لرئيس الجمهورية، بأبواب محصنة هيدروليكية، ونظام تهوية وتنقية من الغازات السامة. كان هذا إحدى مشاريع «التحصينات» المنجزة، وللمراقب الذي يشاهد الفيديو، أن يتصور حجم الجهد المبذول لإنجاز هذا المشروع الضخم بسرية تامة فاجأت أكبر تشكيلات الجيش الحر في المنطقة، وله أن يتصور أيضاً الأدوات المستخدمة من حفارات أنفاق وآليات ثقيلة، والمواد التي تم ضخها من إسمنت وحديد تسليح وتجهيزات فنية للتهوية وتنقية الهواء.
بذل النظام إمكانات واسعة لاستعادة الهرموش، وآنَ تأكيد اختطافه في أيلول 2011، شاع جو غير مفهوم من الاحتفال في «التحصينات». أسرّ لي حينها أحد الأصدقاء، أن الهرموش كان مديراً لعدة مشاريع، وأطلعني على قرار تعيينه مديراً لمشروع في محيط حمص حين كان برتبة نقيب، الأمر الذي يفسر -علاوة على كونه أعلى رتبة منشقة حينها- إصرار النظام على استرجاعه.
قصة الهرموش فتحت قصصاً كثيرة، من بينها قصة أحد ضباط الارتباط مع القصر في «التحصينات»، وهو صديق شخصي لبشار الأسد، كنا نراه مرةً في كل شهر أو مرتين، وبالصدفة عرفت أنه في إحدى جولاته عام 2011، كان في دير الزور يلعب دور الوسيط بين المتظاهرين ورأس النظام في اجتماع جرى في فيلا أحد رجال الأعمال الديريين، الحديث الذي قد إلى ضابط مشابه (ضابط أمن القصر، أو مدير مكتب بشار الأسد، أو ضابط الارتباط مع حزب الله وإيران، أو كل ما سبق) هو العميد محمد كامل سليمان، صهر الديرية، والمشرف على مشروع الكُبَر في دير الزور، وهو أحد مشاريع «التحصينات» في وقت سابق.
ما هو ثابت أن السوريين استعانوا بخبرات وأدوات أجنبية لتنفيذ هكذا مشاريع، وتعلموا تنفيذها لاحقاً بمعزل عن أي تدخل خارجي، لكنها على الأغلب لم تتعدَّ مشاريع المستودعات وغرف العمليات والمصانع في بعض الأحيان، وأن السرية التي تُفرض على هذه المشاريع جعلت أهالي المنطقة في محيط جبال زلبية، يعتقدون بأنه مشروع نووي أو كيماوي، وذاع التندر بعد ضرب الموقع بأن أهالي المنطقة كانوا يُشيرون لسائق الحافلة: «نزلنا عند مفرق النووي»، أو: «بعد مفرق الكيمياوي»، وهكذا.. في إشارة إلى أن الموقع كان مكشوفاً لـ «إسرائيل» «التي لا يخفى عليها شيء».
«إسرائيل» «العارفة بالغيب» اعترفت بفشلها الاستخباراتي، وأن اكتشاف «مفاعل الكُبَر» جاء مصادفة، كما اعترفت تقاريرها الصحفية -بعد أن تبنت الضربة رسمياً- أنها لم تكن تملك معلومات عن الموقع حتى اخترقت الجهاز المحمول لمدير هيئة الطاقة الذرية في سوريا إبراهيم عثمان آذار 2007، أثناء زيارته لإحدى الدول الأوربية، وعثرت على معلومات وصور من داخل مفاعل الكُبَر المزعوم.
لكن الأكثر منطقية هنا، أن تلك الصور وتلك المعلومات -إن كانت موجودة حقاً- فهي في جهاز محمد كامل سليمان العميد المؤتمن على المشروع، وليس إبراهيم عثمان الموظف المدني، وأنها تسربت من جهة العميد -بقصد أو بدون قصد- ما دعا النظام إلى تصفيته في الرمال الذهبية عام 2008، خصوصاً بعد الإشارات إلى ضلوعه في مقتل عماد مغنية.
وإن كان لا بد من سياق للأحداث، فإن «إسرائيل» التي فشلت في اكتشاف مصانع الأسلحة الكيميائية السورية على مدى سنوات وربما عقود، حتى قام النظام بتسليمها بعد مجزرة الغوطة، ضارباً بالوطنية السورية وبأرواح السوريين عرض الحائط. «إسرائيل» تلك أرادت تحقيق نصر معنوي بعد فشلها بتحقيق أي هدف ملموس في حرب تموز 2006، فقصفت مشروع الكُبَر، وسربت للإعلام بأنه مفاعل نووي، تحاول اليوم -بإعلان تبنيها لتلك الضربة- رد الاعتبار لسلاحها الجوي، بعد ما خُدشت هيبته إثر إسقاط طائرة بمضادات أرضية تابعة للنظام، وربما إيران، من الأراضي السورية. كما وتُرسل رسالة تحذير لإيران مفادها بأن «على المنطقة بأكملها استيعاب الدرس من القصف والضربة التي نفذتها «إسرائيل» في عام 2007، ضد ما يُشتبه في أنه مفاعل نووي سوري»، حسب ما جاء على لسان وزير الأمن «الإسرائيلي» أفيغدور ليبرمان.
استمر العمل في المنشأة بعد ضربها، وكنا نسمع أصوات التفجيرات قادمة من الضفة المقابلة أثناء تخييمنا تحت قلعة حلبية، واعتقدنا حينها أن النظام يقوم بإخفاء معالم المشروع. لكن، وأثناء الثورة، سيطرت حركة أحرار الشام على الموقع الذي ظهر كبناء واسع يحتوي على صاروخ سكود، ذات الصاروخ الذي استولى عليه تنظيم داعش، وعرَضه محمّلاً على شاحنة طويلة في عرضه العسكري الشهير في مدينة الرقة.
وما يبقى ملتبساً هو إن كان حقاً هذا المشروع مفاعلاً نووياً كان يجري تجهيزه؟! إجابة هذا السؤال تبقى عند دائرة ضيقة من أركان النظام. لكن ما أودّ قوله هنا، هو إن كل مشاريع «التحصينات» تشابه مشروع الكُبَر من حيث السرية والأدوات والإمكانات، وترتبط بشكل مباشر بالقصر الجمهوري، وأثناء تواجدي هناك في «التحصينات» لم يُذكر أبداً أننا كسوريين كنا بصدد بناء مفاعل نووي.