"بسطات" الرقة وسيلة عيشٍ، تحاربها داعش

سيارات الحسبة تجوب شوارع الرقة - رويترز

ليست ظاهرة البيع على "البسطات" جديدةً في الرقة، لكنها استفحلت في عهد تنظيم "الدولة الإسلامية"، وشكّلت جزءاً أساسياً من أسواقها، ومنحت الكثيرين فرص عملٍ سهلةً نسبياً في أجواء الحرب التي تشهدها المدينة، وكذلك في ظلّ التضييق المتزايد من قبل تنظيم "الدولة" على السكان. ولا يمكن تقدير عدد العاملين في هذه المهنة، إلا أن جولةً واحدةً في أيّ سوقٍ أو شارعٍ رئيسيٍّ تؤكّد أننا أمام وجهٍ من أوجه اقتصاد المدينة.

على قطـعة أرضٍ في شـارع "23 شباط"، تقدّر بنحو 1500 مترٍ، حاول تنظيم "الدولة الإسلامية" إنشاء مشروعٍ عامٍّ أطلق عليه تسمية "أسواق الخير"، يتكوّن من عددٍ من الدكاكين الصغيرة جداً والمتلاصقة، تُقدَّم لقاء بدل انتفاعٍ بقيمة 3000 ليرةٍ يدفعها المستثمر شهرياً لصندوق التنظيم. وجاء المشروع، بحسب أهدافه، للحدّ من ظاهرة "البسطات" والباعة الجوّالين، الذين يشغلون معظم الأرصفة في الشوارع الرئيسية في المدينة. وأسواق الخير هذه تجربةٌ فاشلةٌ، كما يعتبرها كثيرٌ من سكان الرقة، لأنها لم تقدّم الحلول العملية، وقلّدت تجارب مشابهةً وفاشلةً من عهد النظام. وأصدرت "دائرة الخدمات الإسلامية" قراراتٍ تنظّم عمل "البسطات"، تشدّدت على وجه الخصوص مع بائعي المحروقات فجمعتهم في مكانٍ واحد، حفاظاً على جمال المدينة، بحسب ما يقول أبو خبّاب، أحد عناصر التنظيم، الذي برّر خشونة التعامل في هذا الشأن بأن هؤلاء -يقصد الباعة على البسطات- لا يفهمون إلا بهذه الطريقة! في حين يشعر هؤلاء بالغضب دون أن يتمكنوا من التعبير عنه، كما يقول رامز، أحد باعة المحروقات، هامساً: "صدَّقوا حالهم إنهم دولة وبلدية وشرطة، وصاروا يتسلّطون عالناس". ويضيف رامز، وهو طالبٌ جامعيٌّ سابقٌ، أن طريقة البيع الحرّة أتاحت فرص عملٍ كثيرةً يحتاج إليها أبناء الرقة العاطلون عن العمل، فمن الممكن لأيّ شابٍّ أن يبدأ مشروعه الخاصّ في بيع مشتقات النفط بمبلغٍ لا يتجاوز 15 ألف ليرة. لكن قرار "داعش" أضاع سبل الرزق على الكثيرين، ليضيف هموماً أخرى تدفع إلى التفكير بالنزوح بعيداً عن هذه المدينة، التي يقصفها طيران بشار وطيران التحالف من السماء، ويخنقها "الدواعش" على الأرض، بحسب ما لخّص رامز واقع مدينته التي لم يكن يتوقع أن تضيق عليه إلى هذه الدرجة.
عند تقاطع شارعي تل أبيض و23 شباط، يجلس أبو حسن يومياً ليبيع الجوارب والقفازات الشتوية، متحمّلاً الظروف الجوية القاسية. ويذكر ميزات موقعه لـ"عين المدينة": "هين قريبين وبين الناس، يشوفون شعندنا بسهولة ويشترون". ويرفض الرجل التعليق على "أسواق الخير"، رغم أنه استأجر دكاناً هناك، ولكنه يفضّل أن يبيع بضاعته هنا على الرصيف. وكذلك يفعل بائع حلوياتٍ متنقلٌ على عربةٍ تذرع شارع تل أبيض، والشوارع المتفرّعة عنه، جيئةً وذهاباً طوال النهار. ومن أمام حديقة البجعة لم يوقف علي، بائع الأدوات الكهربائية، أعمال "بسطته" هو الآخر، رغم استئجاره لدكانٍ في أسواق الخير.
في الأشـهر الأخيرة، انضمّ إلى "جماعة" العاطلين عن العمل في الرقة مئاتٌ من الموظفين الحكوميين المفصولين أو المحرومين من الرواتب، بناءً على توصياتٍ أمنيةٍ بضرورة مراجعة أفرع المخابرات في المدن الواقعة تحت سيطرة النظام، وحُدِّدت لموظفي الرقة لاستلام الرواتب الشهرية منها. تضاف إلى ذلك مخاطر الطريق التي لا تنتهي، سواءً عند السفر إلى الجزء الخاضع لسيطرة النظام بمدينة دير الزور، أو إلى الحسكة، أو إلى حماة التي كان آخر ضحايا حواجز شبّيحتها ركاب حافلةٍ صغيرةٍ، كانوا في طريقهم من الرقة لاستلام رواتبهم قبل أن يتعرّضوا لإطلاق نارٍ مركّزٍ، وحتى التأكد من مقتل كلّ من كان فيها، بحسب ما أكّد شهودٌ كانوا قريبين من موقع الحادثة.
ويصف عادل، وهو موظفٌ سابقٌ ومهتمٌّ بأحوال المدينة، ما يحدث للرقة بأنه كارثةٌ بطيئةٌ و"تمويتٌ" بالتدريج: "وين تروح هالناس؟ ما بقى قدّامها غير تصير مع داعش أحسن شي! أو تهجّ برّا هالبلد لحتى ربّ العالمين يفرجها بشي يوم ما أظنّه قريب أبداً".