200 مترٍ للموت في منبج

حين تدخل إلى مدينة البحتري وعمر أبو ريشة، وتمرّ بأبي فراس الحمداني وهيرابوليس، لا بدّ أن تقف على عتبات التاريخ وتستنشق على أعتاب فاتيكان الشرق عبق الحضارة، «فللماء طعمه وللحجارة لونها وللناس حكاياتهم». وإن كان لكلّ زمنٍ تاريخه وحضارته ورجالاته فإن «حيّ الحزاونة» يختصر منبج الثورة ونضال أبنائها، حصارهم وجوعهم وحكاياتهم.

يقع حيّ الحزاونة -أو «حيّ الكرامة» كما أطلق عليه أبناؤه منذ بدء الثورة في سورية- وسط المدينة في الجهة الجنوبية، ويشكل ثلث مساحة منبج البالغة ألفي هكتار. ويمثل الحزاونة الحيّ الشعبي الأكبر في ثاني أكبر مدينةٍ في المحافظة بعد حلب. وبينما راح البناء الحديث يتطاول في أغلب مناطق منبج، وباتت الأبنية الطابقية الحديثة واضحةً في الأحياء المجاورة، ظل حيّ الحزاونة محافظاً على أبنيته العربية العشوائية المتداخلة وأسطحه المتلاصقة. وكأغلب الأحياء الشعبية في سورية كان يعيش حالةً من الفقر وغياباً للخدمات وكثافةً سكانيةً كبيرةً جعلته من أكثر الأحياء في منبج ازدحاماً.

التصق أبناء الحيّ بالثورة منذ بدايتها، فعمت المظاهرات معظم شوارعه، وخرج أهله آملين بالتغيير ورافعين علم الثورة وأهدافها. تحرّر الحيّ من قبضة نظام الأسد في تموز 2012، ليدخله تنظيم الدولة في 23 تشرين الثاني 2014، ولتصبح منبج منذ ذلك الوقت تحت حكم التنظيم بموقعها الاستراتيجيّ، لأنها تقع على الطريق الممتد من الشمال إلى الجنوب بين جرابلس -التي كانت تسيطر عليها داعش وقتها- على الحدود مع تركيا ومدينة الرقة «عاصمة» التنظيم في سوريا.

أبو إبراهيم صاحب أحد المحلات التجارية في حيّ الحزاونة، ويعرف كل سكانه، على حدّ قوله، بعد أن أمضى سنواته الخمسين منذ ولادته بين بيوت الحيّ القديم؛ قال إن الحيّ يجمع كل الطوائف والعشائر والملل. تُعرف الشوارع هنا بأسماء العائلات على الأغلب. عشت كل قصص الحيّ ومظاهراته واشتباكاته ودخول التنظيم إليه، ولكن ما حدث في تموز 2016 لن تستطيع أن تراه حتى في السينما. إلى الآن لا أستطيع التصديق كيف استطعنا النجاة في ذلك اليوم!

في 31 أيار 2016 بدأت قوات سوريا الديمقراطية هجومها على المدينة لاستعادتها من أيدي عناصر تنظيم الدولة، وبدأت طائرات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بقصف منبج بكاملها، وكان نصيب حيّنا النصيب الأكبر... «الفقراء دائماً يدفعون الثمن».

لم تكن لدينا ملاجئ لنحتمي من القصف. تنظيم الدولة، حين دخل المدينة، اختار الأبنية الحديثة والشوارع الراقية لسكنه، كان وجوده في حيّنا للمرور فقط. ومع تقدم قوات سوريا الديمقراطية إلى دوار المطاحن من الجهة الجنوبية الشرقية لحيّنا، وإلى القرب من دوار الدلة شمال الحيّ؛ تمركز التنظيم في مدرسة محمد راغب هارون في منتصف الحيّ، وعلى أسطح المنازل، فزادت حصتنا من ضربات التحالف الجوية ومدفعية الأكراد، وكان التنظيم يزيد الأمر سوءاً بقنص كل من يحاول الخروج.

لم تكن هذه المرّة الأولى التي استهدفنا التنظيم فيها، فقد فعلها في 19 تشرين الثاني 2015 عندما خرجنا في مظاهرةٍ ضد ممارساته وطالبناه بالخروج من المدينة، فأطلق علينا النار واعتقل بعض شباب الحيّ وفرض حظر التجول. التنظيم لا يحبنا، وكانت دائماً تصلنا أحاديث من بعض المتعاملين معه أن «حيّ الحزاونة وأبناءه خونة»!

أجبر القصف الشديد على المدرسة التنظيم على إخلائها والخروج من الحيّ. بات الحيّ خالياً من التنظيم ومحاصراً من قوات سوريا الديمقراطية في بداية حزيران. عشنا أياماً عصيبةً في ظلّ الحصار، لم يعد هناك ما نأكله. صار الدخول إلى الحيّ أو الخروج منه أشبه بمهمةٍ مستحيلةٍ تعرّض صاحبها للقنص. وصار البقاء مستحيلاً أيضاً، فطائرات التحالف تقصف الحيّ بلا هوادة، علاوةً على الاشتباكات التي كانت أصواتها وطلقاتها تصل إلينا في كثيرٍ من الأحيان. بيوتٌ كاملة هدّمت فوق أصحابها، بناية محمد السعيد ضربتها الطائرة فقتلت خمسة عشر شخصاً من عائلة واحدة.

حاول بعض الناس الخروج فقنصهم التنظيم. بقيت الجثث في الطريق الفاصل بين دوار الدلة والحزاونة -المرصود بقناصين من الطرفين- فلم نستطع سحبهم. لم يكن حيّنا الوحيد الذي يعاني، فقد سمعنا عن ستة أشخاصٍ قنصوا على «براكية الخبز» عند دوار طريق الجزيرة، وداخل الأحياء. حتى أني سمعت عن رجلٍ قنص ولم يستطيعوا سحبه لدفنه فصار أهله يرمون عليه الحجارة و«تنك الزرع» والتراب من الشبابيك لتغطية جثته... «يا لموتٍ لا يكرّم صاحبه بدفنه».

قطعت الكهرباء عن حيّنا وصار إخراج الماء من البئر مستحيلاً. لم تكن كل البيوت قد حفرت آباراً. استعنت بمولدتي ومددت الخراطيم لمعظم أهالي الحيّ لضخ المياه إليهم. وفقد الخبز الذي أصبح مغموساً بالدم والرصاص، وكان الغذاء قد نفد.

في الرابع من تموز اجتمع معظم الأهالي أمام دكاني لإيجاد حلٍّ لما نحن فيه. كانت قوات سوريا الديمقراطية قد وصلت من الجنوب إلى الجزء الشماليّ من الحزاونة، ومن الجنوب الغربيّ حتى دوار السبع بحرات، مع بقاء بعض الأبنية غربيّ الدوار بيد تنظيم الدولة، ومن الشمال إلى الجهة الشمالية من شارع الرابطة، ومن الشرق والشمال الشرقي قرية المنكوبة وخلف الفرن الآلي. وكان حيّنا خالياً من التنظيم من دوار الدلة حتى مبنى المرور، ولا تقدم للأكراد أو للتنظيم من شمال مدرسة راغب هارون، لأنها مرصودةٌ من قناصات الطرفين حتى شمال الدوار بحوالي 200 متر.

لم يكن أمامنا سوى هذا الطريق للخروج من الحصار. كان القرار صعباً، كلنا كنا خائفين ولكن الحياة تضعك -في أغلب الأحيان- أمام خيارٍ واحد، سيموت بعضنا ولكن بعضنا الآخر سينجو.

كانت الخياران المطروحان أمامنا بين أن نبقى لنموت في بيوتنا وبين أن نخرج ويحظى بعضنا بالحياة لينقل قصتنا.

مئتا مترٍ تفصلنا بين الحياة والموت. هذه المسافة، التي لم نكن ننتبه لها غالباً، هي المسافة بين الإيمان المطلق واللاإيمان، بين الجحيم والجنة.

اتخذنا قرارنا بالخروج من الحيّ في اليوم التالي. اتفقنا أن نجهز أنفسنا للرحيل ونلتقي في مدخل الحيّ. علينا أن نهرب فقد نفد صبرنا. في تلك الليلة قصف طيران التحالف حيّنا، ليلنا صار نهاراً من كثرة استخدام القنابل المضيئة. كنت نائماً في أرض بيتي عندما اهتزت جدران المنزل فدخلت إلى الغرفة وحاولت أن أعاود النوم. نسيت كل ما يحدث في الخارج وانحصر تفكيري وقلقي في رحلة الغد.

في صباح 5 تموز تجمّعت أكثر من مئة عائلة، عشرات وسائط النقل، سياراتٌ شاحناتٌ موتوراتٌ دراجاتٌ هوائية، أناسٌ بلا وسائط نقل، أخرون تعلقوا بالشاحنات، وبعضهم جلسوا في «باكاج» السيارات. والكل يترقب لحظة الخروج من الجحيم.

صوت بكاء الأطفال والنساء طغى على المشهد وكأنه يوم القيامة. عليك أن تبحث عن موطئ قدمٍ في هذا الرتل. الرجال الذين لا يملكون وسائط نقلٍ وضعوا أطفالهم كأمانةٍ في سياراتٍ مكتظةٍ لآخرين والنساء حُشرت، «المسافة كلها مئتي متر، دبروا حالكون». تفرّقت العائلات في أكثر من سيارة، ومن لم يكن له مكانٌ قرّر الركض إلى الجانب الآخر.

عندما اكتمل الموكب، وكنت في سيارتي التي ملئت عن آخرها، طلبت من الجميع أن «يتشاهدوا» وقرأنا الفاتحة. كانت اللحظة الأهم. شعرنا أن جلودنا قد اقشعرت، وبدأ البرد يتسرّب إلى أصابعي. الجميع يتلفظ بكلمة «يا رب» وعيوننا متجهةٌ إلى الطرف الآخر من الطريق.

بعد أن «حمّينا» السيارات انطلق الموكب بأقصى سرعة. لا أعرف وقتها سرعتي حقيقةً، ولم يكن عندي متسعٌ من الوقت للنظر.

انطلقت أمامي دراجةٌ ناريةٌ، وصرت إلى جانبها، وورائي عشرات السيارات والدراجات وأشخاصٌ يركضون محتمين بالموكب.

بدأت أصوات الرصاص تصل إلى سمعي. لم يكن قناصاً فقط، فقد استخدم التنظيم رشاشاً أيضاً. كان الرصاص «كزخّ المطر». المرأة على الدراجة النارية أمامي أصابتها رصاصة القناص وقذفتها من خلف زوجها. مرّت أمامي كما لو أن الموج يسحب جثتها. وبدأت قوات سوريا الديمقراطية بالردّ على مصادر النيران لمساعدتنا.

الازدحام الشديد أعاقنا، السيارات تضرب بعضها لتحيد عن الطريق. مرّت دقائق شعرت بأنها سنوات. رأيت الموت أمامي، وحين وصلت إلى الجانب الآخر شعرت بـأني ولدت من جديد.

40 شخصاً كانوا قد ملأوا الطريق. كنا نراقبهم من الضفة الأخرى، بعضهم ما زال يتحرك، والرصاص لم يتوقف بعد. كلهم استشهدوا أمام أعيننا، بعضهم كان قد فارق الحياة وبعضهم كان يحاول الزحف للوصول فتلتقطه رصاصة القناصة.

معظم الناجين قد أصيبوا أيضاً، فمن لم يصل إليه الرصاص أصيب بحوادث السير التي جرت، وسقط بعضهم من «باكاج» السيارة الممتلئ نتيجة الاصطدام بالسيارات الأخرى. «لكل امرئٍ منهم يومئذ شأن يغنيه».

في الجانب الآخر عانقنا بعضنا وبكينا. كانت غريزة البقاء أقوى من الألم. كان زوج المرأة التي استشهدت أمامي يقف ناظراً إليها، لعله كان يفكر في العودة. كل ما أذكره أنه نادى باسمها ثم قال «كانت حامل» وبكى كما يبكي الأطفال.

نازحون من مدينة منبج -Gett

نازحون من مدينة منبج -Gett