يوماً ما في داريا.. السطو على الأرزاق والحصار من الداخل والجوع الذي عشناه في الحصار

لم أكن أتوقع ونحن في منتصف العام الثالث للثورة أننا مقبلون على حصار خانق سيطول حتى العام السادس. كان جو الجبهات التي نرابط فيها منغلقاً على نفسه، ولم تكن الساعات القصيرة التي نغادر خلالها جبهة القتال كافية للتعرف على ما يحدث داخل المدينة، لكن عندما تراخى التزامي بالجبهات بعد فترة وانشغلت بالتغطية الصحفية، أضحى بإمكاني التعرف أكثر على واقع مرير أقسى من المتوقع، فصور الحصار التي نقلت خلال الإعلام لم تكن هي الحقيقة الوحيدة للأسف.

عند الحديث عن حصار داريا الذي بدأ فعلياً مع إغلاق شارع الأربعين بالقرب من مدينة معضمية الشام بدايات العام 2013 وانتهى بإخلاء المدينة في أيلول 2016، أول ما يخطر في بالي تلك الفئة التي باعت واشترت على حساب مئات الجائعين دون أن تحرك المشاهد القاسية للحصار شيئاً من مشاعر الرحمة لديهم؛ كان العشرات يبحثون عن حفنة البرغل والرز أو يكتفون بوجبة الشوربة الصفراء (حفنة من الرز والبهارات وما تبقى عبارة عن ماء) التي كانت توزع يومياً ولمرة واحدة في مطبخ داريا.

خرجت من الجبهة دون أن أحسب أي حساب لموضوع الطعام، فكيس البرغل والإناء الذي يحوي 5 كيلو من السكر و"تنكة" تبقى في أسفلها القليل من السمن- كفيلة بإشباعي لمدة شهر تقريباً. بعد ذلك عانيت كغيري من الجوع الذي لم ينته إلا عند توقيع هدنة معضمية الشام بداية العام 2014 حين سمح النظام بتمرير البضائع إلى المعضمية وحصلت داريا على نصيب وافر من تلك البضاعة طوال العام الرابع للثورة.

خلال الحصار الأول عشنا على أوراق السبانخ والزيتون وبقايا المكدوس الذي كنا نعثر عليه في مطابخ البيوت؛ في إحدى المرات وجدت إناء صغيراً للمعقود بالتين، كانت الحبات القليلة المليئة بالسكر كافية لجلب السعادة لي ولأصدقائي طوال سهرة تلك الليلة. أما قبل الحصارات اللاحقة فكان التجار من المدينتين يشترون البضائع والسلل الغذائية التي سمح النظام بإدخالها إلى المعضمية مرتين، ومع عودة الحصار والجوع كانت أسعار هذه المواد ترتفع بشكل فاحش؛ وصلت السلة الغذائية التي تحوي 25 كيلو من الطعام إلى 90 ألف ليرة، كما تراوح كيلو السكر بين 5 و11 الف ليرة.

و لانشغال غالبية من تبقى في داريا بصد هجمات النظام على جبهات المدينة خلا الجو لآخرين لدخول المنازل والمتاجر ومستودعات الأغذية التي كانت مكتظة بالبضائع، كان لهؤلاء نصيب الأسد في المواد الغذائية الضخمة التي كانت مخزنة في داريا ولم يستطع أصحابها إخراجها إلى أماكن نزوحهم بسبب صعوبة تمريرها على حواجز النظام. منذ الأيام الأولى للحملة العسكرية واظب "أبو علي" على دخول منازل جيرانه والمحلات التجارية القريبة من منزله، تمكن الكهل الذي تجاوز 50 سنة من جمع عدة أطنان من المواد الغذائية المكونة من السكر والطحين والبرغل والرز وغيرها؛ مع اشتداد الحصار امتلك أبو علي ثروة غذائية لا تقدر بثمن. عشرات المدنيين تمكنوا من استنساخ تجربة الرجل ليشكل أبو علي وأمثاله ممن يتصفون بالجشع و يجلسون على أطنان من الغذاء النواة الأولى لتجار الحروب.

كان تمشيط المنازل والمتاجر السمة العامة في داريا خلال السنة الأولى للحملة: مقاتلون يبحثون عن طعام أو ملابس، مدنيون يتوغلون في خصوصيات السكان الفارين من الموت والذين استقر بهم المقام خارج المدينة في المدن والبلدات المجاورة.. العديد منهم وجد أغراضاً ثمينة مثل النقود والذهب والمجوهرات، بعضهم تركها في مكانها أو أعطاها لقائد فصيله كي يسلمها لمكتب الأمن المشكل حديثاً وقتها، بينما دخلت معظم هذه الأشياء الثمينة جيوب من وجدها دون أي شعور بوخز الضمير. هناك حكايا من نوع آخر عن فلانة التي أعطت "أمانة" لجارتها قبل خروج عائلتها الى الحرجلة تنفيذاً لاتفاق إخلاء داريا في العام 2016 ثم فقدت الوصول إليها.. تكرر نفس المشهد في تلك الفترة عدة مرات.

لم يقتصر احتكار الطعام على المدنيين أو الأفراد من المقاتلين بل شاركت الفصائل المقاتلة بمثل هذه التجاوزات؛ الكتيبة التي يديرها أبو وائل حبيب تمكنت من جمع كميات كبيرة من الطعام حين مكنها الموقع الذي كانت ترابط فيه -المليء بالأبنية والمستودعات- من الحصول على مواد غذائية كثيرة، في حين كان أبو سلمو (قائد كتيبة أخرى) ومقاتلوه الذين يتجاوزون 300 مقاتلاً في تلك الفترة يأكلون وجبة واحدة في اليوم مكونة من بعض البرغل أو الرز وسلطة من الأعشاب كالسبانخ والسلق.

NewsDeeply

قررت أن أطلب كيلو واحد من الحبوب من أحد المقاتلين الذين يتبعون لكتيبة "شهداء داريا"، لعدم وجود أي طعام في مطبخي، لكن طلبي قوبل باعتذار خجول بحجة أنه سيسأل "أبو وائل" قائد الكتيبة إن كان المقاتل مخولاً بتزويدي بالكمية المطلوبة. في حالة أخرى كنت أعلم أن أحدهم يخزن في بيته كمية لا بأس بها من الطعام، بل كان يتاجر ببعضها (كيلو الرز أو البرغل ب3500 ليرة. السكر ب 5000 ليرة) ذهبت إليه على استحياء وطلبت مقداراً بسيطاً من الطعام، فكانت إجابته حاضرة على الفور "ليس لدي طعام.. أدبر نفسي بصعوبة بالغة" وانتهى هذا اللقاء بخاتمة كانت صعبة على نفسي "تعال في المساء لنتعشى معاً".

عشت وزوجتي على نبتة "البقلة" فقط لا غير لمدة ثلاثة أيام، كنا نقطعها ونضع عليها الزيت ونأكلها، أقسى ما مر معنا كان نفاد ملح الطعام: لو حصل الإنسان على طحين أو برغل فلن يجد أي رشة ملح، كان ذلك كافياً لجعل حياة الحصار أقرب إلى الجحيم… توفر في الأسواق ملح أسود اللون فاشتريت أوقية ب 1000 ليرة وهرولت إلى البيت، لقد حصلت على الملح! وضعناه مع الشوربة وبدأنا بتناول الطعام. كان المشهد أقسى هذه المرة، فقد امتلأ الملح بمادة المازوت ما جعل مذاق الشوربة لا يطاق. (عرفت لاحقاً أن أحدهم عثر على كمية الملح في فرن يعمل على المازوت وباعه في السوق).

العامان الخامس والسادس كانا قاسيين على داريا وعلى معضمية الشام، فقد تعثرت الهدنة وفرض النظام حظراً على دخول الطعام إلا لبضعة أشهر قليلة، ما تسبب بأزمة جوع كبيرة في المدينتين؛ في الحقيقة جاعت المعضمية أكثر من داريا، مكنت لي إقامتي في المعضمية وقتها من التأكد من هذه المعلومة: كانت المعضمية تضم أكثر من 30 ألف نسمة، بينما لا يتجاوز تعداد سكان داريا 3 أو 4 آلاف.

عانى سكان المعضمية من الفقر لقلة فرص العمل وتوقف جزء كبير من الدعم عن المجلس المحلي للمعضمية والهيئات الثورية، في المقابل أدخلت الحملات السنوية التي كان يطلقها المجلس المحلي لداريا مثل "داريا حكاية أمل" و"داريا صمود ثورة" مئات آلاف الدولارات، إضافة للدعم العسكري والإغاثي اللذين لم ينقطعا أبداً؛ هذه الأموال جعلت كميات كبيرة من البضائع التي تدخل إلى المعضمية تتابع طريقها إلى داريا والمبالغ الكبيرة التي كانت تدفعها داريا للتجار رفعت الأسعار في المعضمية؛ ربما لهذا السبب كان سكانها في تلك المرحلة يطلقون لقب "الخليجيين" على من تبقى في داريا.

ليس نادراً أن ترى شباناً أقوياء مفتولي العضلات يقعون على الأرض من شدة الجوع؛ بعض الأطفال وكبار السن كانوا على وشك الموت بسبب سوء التغذية أو تعرضهم للجفاف. في المعضمية كان المشهد أقسى، خصوصاً خلال الحصار الأخير؛ كنت أشاهد الناس يمشون في الشوارع كأنهم هياكل عظمية أو مومياءات؛ كان الطعام هو الهاجس الوحيد للسكان… نشط عمل تجار الحروب في تلك المرحلة، كان جشعهم لا يعرف الاكتفاء، والحجة دائماً "داريا" إنها تدفع أكثر. "لقد أتى أحد الأشخاص من داريا واشترى جميع السلل الغذائية بسعر ممتاز" يقول تاجر الغذائيات المعروف بكيكي رداً على طلب أحد زبائنه شراء السكر والمواد الغذائية الأخرى.

أما تجارة الدخان كانت أكبر تجارة رابحة استطاع البعض من خلالها تحقيق ثروة ضخمة، كان الدخان يهرّب من نقاط جبهتي الأربعين والأثرية من جهة معضمية الشام، ثم يدخل إلى داريا عن طريق التجار. تداول الناس حكايات كثيرة حول تعامل بعض القادة العسكريين من أبناء المعضمية مع عساكر النظام التي كانت تطلب المواد الغذائية (معظمها قادم من داريا) مقابل تمرير كراتين التبغ.