وقطّة البيت تغفو حيثُ ترتاحُ

تشعر الحيوانات بما نشعر به من فزعٍ عندما تنطلق قذيفة المدفع، وبعدها بثوانٍ، وحتى تنفجر بارتطامها بالأرض. لم نكن نحمل كثيراً من المودّة لمن يشاركنا اليوم هذه المشاعر. ولكن، بعد الحرب، تبدّلت مشاعرنا هذه كما تبدّل الكثير في حياتنا. 

قد يكون قتل الفراغ هو الدافع وراء حوادث تعذيب القطط، التي كان يتلذّذ بها البعض، أو قد تكون ردّة فعلٍ على قسوة السلطات واستبدادها، كما يقول بعض المهتمّين بعلم النفس الاجتماعيّ، وقد يكون كلاهما معاً، لتشكل حكايا القطط واحدةً من مظاهر الخشونة العامة قبل الثورة. أما بعدها، في دير الزور المحرّرة، فقد تغيّرت العلاقة مع هذه الكائنات إلى حدٍّ كبير. فلا يكاد يخلو بيتٌ اليوم، في أيّ حيٍّ من أحياء المدينة، من هرٍّ أو أكثر، في الوقت الذي يعاني فيه البشر من مصاعب كبيرةٍ للنهوض بأعباء العيش اليومية، في جوٍّ من القلق، وحالةٍ تقترب من الجوع، وعلى أصوات القذائف التي لا تنقطع. لكن السكان تكيّفوا، في علاقتهم الجديدة بالقطط، مع ظروفهم القاسية. فعملوا على تعويدها، هي الأخرى، على تلك الظروف. إذ يمكن أن تجعل من هذا الحيوان اللاحم نباتياً بإطعامه النباتات فقط في سنٍّ مبكّرة. يقول عثمان، وهو بيطريٌّ مختصّ: "بعض الناس يطعمون القطط بقايا الطبخ، والبعض الآخر الخبز والبطاطا المسلوقة. بي إشاعة بالجورة –حيٌّ محتلٌّ في دير الزور- أنه البسوس عندنا توحّشت قد ما أكلت جثث!".
يفسّر البعض ظاهرة العناية بالقطط بالحاجة إليها لمكافحة الفئران التي استباحت المدينة، مستغلةً غياب سكانٍ كثرٍ عن بيوتهم هرباً من الحرب، وكذلك تراكم النفايات وتراجع النظافة العامة. ويشرح أيهم، وهو شابٌّ من حيّ الحميدية، سبب تربيته لقطٍّ في المنزل: " تشقق الحيطان، ونزوح الناس من بيوتهم، وتراكم الأوساخ سبّب انتشار الفار. وما لقيتو حلّ إلا أجيب بسّ. وما لقيتو أحسن من عنتر –اسم القط- لطردها. وفعلاً من هذاك الوقت ما شفتو فارة بالبيت".
ورغم وجاهة السبب الذي يقدّمه أيهم –والذي يؤيده فيه الكثيرون- إلا أنه لا يكفي لتفسير هذه العاطفة الفجائية تجاه القطط في دير الزور. فهناك دوافع أخرى قد تكون الوحدة وساعات الترقب والانتظار، وقد تكون الرغبة في رؤية شيءٍ ما بعيداً عن الحرب. كما فعل معلّم المدرسة أبو أيمن، الذي أنقذ قطّة جاره الإفرنجية المدللة من التشرّد، فآواها بعد نزوح الجار، وتعلّم العناية بها، ووزّع بعض جرائها –بعد أن ولدت- لأصدقاء ومعارف، وعلّمهم بدوره كيف تُنظف وتُقصّ مخالبها: "أحياناً أقضي ساعات وأنا أتفرّج عليها وهي تلعب. هي ذكية تتعلم بسرعة. وصارت لما تسمع صوت قذيفة تركض تا تتغبى تحت أقرب كنبة أو كرسي، ولما يهدى القصف تطلع من جديد".

السفّاح التائب

في الماضي، وبعد غزوةٍ ليليةٍ لإحدى القطط على "قنّ حمامٍ" يملكه أحمد، قرّر مربّي الحمام الشابّ أن ينتقم من فصيلة القطط كلها. فاشترى من الصيدلية الزراعية مادة (لانيت –ميثوميل) لتكون سمّاً يتبّل به السمك ليكون "طعماً"، قبل أن يرميه في حاوية القمامة ليقتل أكبر عددٍ من القطط. وهذا ما حدث فعلاً؛ إذ شاهد الجيران أكثر من عشرٍ منها ميتةً في الحاوية. كان هذا قبل الثورة، أما اليوم فقد تغيّر أحمد كثيراً، فانقلب سفاح القطط هذا إلى شخصٍ وديعٍ معها، وأصبحت رعايتها واحدةً من اهتماماته اليومية. وهو الآن واحدٌ من مربّي القطط، الذين لم يكونوا محلّ احترامه من موقعه كرجل حمام: "عندي بسّ، هارون، مربّيه. وسميتوه رعد".
ولا يكفي "رعد" لإيقاف تأنيب الضمير لدى مسمّم القطط السابق. فما زال الرجل -بحسب ما يقول- يشعر بالألم ويظهر ندماً على ما فعل بحقّ ضحاياه. فهو لا يستطيع أن ينسى صورتها ميتةً بالسمّ بجوار بعضها في الحاوية، ويفكر جدياً بالتكفير عن ذنبه بدفع ديةٍ عنها للفقراء: "يقولون اللي يقتل بسّة لازم يتصدّق بحنطة بحجم البسّة وهي واقفة من الراس لآخر الذيل". ويسخر من نفسه لأنه قام بتسميم القطط لأنها هاجمت الحمام، مقارنةً بما يحدث اليوم: "صرتو ما ألوم هالحيوان لما يهجم عالحمام تا ياكل، لما أشوف الناس الفهمانة والمتدينة -على أساس- تذبح بعضها!".