هكذا يرى أهالي الموصل الحياة في ظلّ تنظيم الدولة

كريم شاهين/ الغارديان 10 حزيران
ترجمة مأمون حلبي

سيطر مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل، ثاني أكبر مدينةٍ في العراق، إثر تقدّمٍ خاطفٍ في حزيران 2014. هنا يحكي سكان المدينة عن تجاربهم في ظلّ حكم هذه الجماعة المتشدّدة.

فراس غالب. طبيب الجهاز العصبيّ. 45 عاماً. أبٌ لولدين.

قبل بضعة شهورٍ من زحف مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية إلى الموصل كانت المدينة على حافة بركان. فالحكومة الشيعية في بغداد كانت على الدوام تنظر إلى الموصل على أنها معقلٌ للبعثيين، لأن معظم ضباط الجيش الكبار في عهد صدام حسين كانوا من الموصل. عندما سيطر مقاتلو التنظيم على المدينة عاملوا السكان بتواضعٍ، فأزالوا كلّ الحواجز التي فرضها الجيش وفتحوا الطرقات. لم يصدّق الناس أعينهم؛ أن لا وجود لجيشٍ شيعيٍّ في المدينة، ولا وجود للمعتقلين أو للرشاوى.

كنت أحضر صلاة الجمعة في أحد المساجد عندما قال الإمام: "بعد الصلاة عليكم أن تبايعوا أميركم، الخليفة البغداديّ". أنا وكثيرٌ من الرجال أردنا الهروب لنتجنب المبايعة، لكن مقاتلين كانوا يحرسون المسجد منعونا. وردّدنا وراء الإمام: "نبايع الأمير ونتعهّد بطاعته وعدم الثورة عليه". الجمعة التالية، قال الإمام: "لقد وضع الخليفة موعداً نهائياً لرحيل مسيحيّي الموصل بعد ظهر يوم السبت. طلبنا من قساوستهم أن يأتوا ويناقشوا الجزية التي عليهم دفعها لنا، فرفضوا ذلك". أحد أصدقائي المسيحيين كان طبيباً ويتردّد إلى الكنيسة. سألته: "لماذا لم يذهب قساوستكم إلى الاجتماع مع التنظيم؟"، فأجاب: "كانت لقساوستنا تجربةٌ سيئةٌ معهم في سورية. ذهب قسيسان في حلب للتفاوض مع التنظيم ولم يعودا أبداً. ببساطة، الثقة معدومة". أُعطي المسيحيون ثلاثة خياراتٍ: اعتناق الإسلام أو الفرار من الموصل أو القتل. قال لي صديقي إن كثيراً من العائلات المسيحية في حي البكر تحوّلوا إلى الإسلام لأنهم كانوا فقراء وليس بمقدورهم تحمل نفقات الفرار إلى أربيل.

بدأت المشافي تتعرّض لنزيفٍ في الكوادر، الذين لم يستطيعوا التأقلم مع الوضع غير المعتاد، خصوصاً الطبيبات والممرّضات، اللواتي كان عليهنّ ارتداء الحجاب طوال الوقت. كان مشفاي يعجّ أيضاً بمقاتلي التنظيم الذين كانوا يراقبون كلّ الأجنحة والكادر الطبي. أخذت مواد التخدير في المشفى بالنفاد. بعض عمال النظافة في المشافي، المنخرطين في التنظيم، حذّروا الأطباء الذين لم يكونوا منضبطين. أحدهم كان يصرخ أنه "سيسحق رأس" الطبيب الذي يتأخر عن العمل. كلّ طبيبات الأسنان مُنعن من معالجة الرجال، وبالعكس. كتبتُ إعلاناً وعلقته على الباب: "أعاين الرجال فقط". مراقبو التنظيم في المشفى قالوا لي -لأنني طبيب العصبية الوحيد في المشفى- إنه مسموحٌ لي أن أعالج كلا الجنسين. رفضتُ الأمر وأصررتُ على أن أحصل على فتوى تضمن أني لن أُجلد، قيل لي أن لا وجود لفتوى كهذه. بعض مريضاتي توسّلن إليّ أن أعاينهنّ لكنني اعتذرت. أعرف أستاذاً جامعياً ضبطته الحسبة الإسلامية في غرفةٍ مع زميلةٍ له يصحّحان أوراق الامتحان. كانت عقوبته أن يتزوّج زميلته أو يتلقى 30 جلدةً. رفض الأستاذ الخيار الأوّل، لأنه كان متزوّجاً ولديه أبناء، وقبل الخيار الثاني. منذ وقتٍ قريبٍ غادرتُ الموصل مع زوجتي وولداي إلى أربيل.

بشير عزيز. خرّيجٌ جامعيٌّ. 45 سنة. يناصر التنظيم.

قبل مجيء التنظيم، كانت الموصل مثل سجنٍ كبيرٍ مرعب. في طريقنا إلى كلية العلوم كان على الحافلة أن تتوقف عند حواجز عسكريةٍ كثيرةٍ يتمّ عندها بحثٌ محمومٌ عن بطاقات الرجال. في كثيرٍ من الأحيان كان الركاب ينتظرون لساعاتٍ بينما يكون أحد الجنود منهمكاً بضرب راكبٍ صودف أنه لم يكن يحمل بطاقته الشخصية. الدولة الإسلامية هي الحلم والرغبة القصوى لأيّ مسلم. كنّا نتوق إلى أن تحكمنا قواعد القرآن الكريم والسنة النبوية. الزنا يتمّ التعامل معه بالرجم أو بالجلد. عقوبة السرقة قطع اليد. ويُسجن الرجال إن تحرّشوا بالنساء. لقد تمّ إنشاء دواوين الدولة الإسلامية. ديوان الزكاة مسؤولٌ عن جمع الضرائب لتوزيعها على الأسر المحتاجة. تتلقى كلّ أسرةٍ 25 دولاراً شهرياً، ويرتفع المبلغ إلى 50 دولاراً في موسم الحصاد، بالإضافة إلى حصّةٍ طيبةٍ من القمح والأرز والسكر والمخللات وزيت الطعام والوقود.

يدير ديوان الصحة كلّ مشافي الموصل والرقة والأنبار، ويوزّع الهيئة الطبية العسكرية على كلّ مناطق القتال. لا يقبل التنظيم خدمات أيّ طبيبٍ إن لم يبايع، وأبداً لا يرسل الأطباء إلى محافظاتٍ أخرى إن فضّلوا البقاء في مدنهم. مؤخراً افتتح سوقٌ حصريٌّ للنساء في الموصل. لا حظر على قيادة النساء للسيارات. تبذل البلدية قصارى جهدها لتبقي الطرقات نظيفةً ومعبّدة، وتقدّم الماء والكهرباء وتصلح الضرر الناتج عن الضربات الجوّية للتحالف. أشعر بالفخر لكوني جزءاً من الدولة الإسلامية، فهي منحتني الحرية. إننا نعيش المجد لولا ضربات التحالف، التي تنشر الذعر والخوف بين المدنيين. أختلف مع ممارسات التنظيم ضد المسيحيين والإيزيديين والأقليات الأخرى في الموصل. لا أزال على اتصالٍ مع جيراننا المسيحيين، وأتمنى أن يعودوا قريباً. كلّ الناس في الموصل غير موافقين على تدمير المواقع الأثرية، وبعض مقاتلي التنظيم أيضاً ليسوا سعداء لهذا الأمر.

توجد أزمةٌ ماليةٌ حادّةٌ بسبب نقص فرص العمل. لا يعرف الناس إن كان التنظيم سيدوم إلى الأبد، أو إن كان سيأتي تنظيمٌ عسكريٌّ آخر وينتقم من أولئك الذين كانوا يعملون لصالح الدولة الإسلامية. الكآبة تعمّ الناس، وفي نفس الوقت، معظمهم ضدّ عودة السياسيين الفاسدين والميليشيات الشيعية، التي ستدمّر الموصل لا ستحرّرها كما يزعمون. الدولة الإسلامية، رغم كلّ وحشيتها، أكثر استقامةً ورحمةً من الحكومة الشيعية وميليشياتها.

غزوان عبد الرحمن. حاصلٌ على الشهادة الثانوية. 19 عاماً. يناصر التنظيم.

كنتُ أدردش مع أحد أصدقائي عن المدرسة عندما تلقيتُ، فجأةً، صفعةً على ظهري. كان رجلٌ طويلٌ، بملابس تنظيم الدولة، يدفع جانباً أيّ رجلٍ يعيق طريقه نحو صاحب المخبز. "أريد خبزاً الآن، لا أستطيع الانتظار. عليّ العودة إلى إخوتي المقاتلين". لكن الخبّاز طلب منه أن ينضمّ إلى الطابور كالآخرين. حمي وطيس الجدال وفقد مقاتل التنظيم صبره، فوجّه ركلةً إلى وجه صاحب المخبز، وملأ كيسه خبزاً، واندفع مبتعداً بعد أن ترك نقوداً على الطاولة. كنا جميعاً في صمتٍ مطبق، نراقب دون أن نستطيع قول كلمةٍ أو فعل أيّ شيءٍ. كان الخبّاز ينزف من أنفه. توعّد أنه سيشتكي إلى المحكمة الشرعية. بعد يومين كانت الشرطة الإسلامية في المخبز تسأل الشهود إن كان المقاتل أو الخباز هو من هاجم أولاً. كلّ الرجال أكّدوا أن المقاتل كان المعتدي. حكمُ المحكمة كان لصالح الخباز، وكان على المقاتل أن يعتذر منه علناً. بعد ذلك تمّ طرد المقاتل من أرض الخلافة لسلوكه الأرعن.

لقد نجح التنظيم في كسب قلوب الناس في الموصل لأنه متواضعٌ، ودون أحكامٍ مسبقةٍ، ومتعاونٌ. استردّ التنظيم كرامة وكبرياء الإنسان السنّي في الموصل بعد أن عانى الكثير من الإذلال والانتقام في ظلّ الحكومات الشيعية المتعاقبة منذ الاحتلال الأمريكيّ للعراق. كان الفساد واسع الانتشار، ينخر كلّ منشآت المدينة، التي كانت مثل ثكناتٍ عسكريةٍ تخنق البشر. لم نشهد أية عمليات إعادة إعمارٍ طوال العشر سنوات الماضية، رغم كلّ المليارات التي تدفقت على مجلس المدينة. يستحقّ مقاتلو التنظيم، المحليون والأجانب، كلّ الحب والاحترام من أهالي الموصل. لماذا يُقبل أن يكون لدى الميليشيات الشيعية في العراق مقاتلون لبنانيون وإيرانيون وأفغان، في حين ليس من المقبول أن يكون لدينا مقاتلون أجانب يدافعون عنا؟ لا أحد هنا يريد أن تقترب الميليشيات الشيعية من المدينة. وسأكون أوّل من يقاتلها، لأنها تأتي لنشر الدمار والقتل بين السنّة. شاهدنا فظاعاتهم بحقّ المدنيين في تكريت وجفر الصخر. الموصل حالياً أكثر استقراراً وأماناً. الخدمات أفضل الآن، والطرق أنظف.

هاشم زكي، 33 عاماً.

بعد انتهاء خدمتي العسكرية، اشتريتُ عربةً خشبيةً لأبيع الحمص والخبز. كنت أبيع السندويتشات للطلاب عندما حطّت دوريةٌ للحسبة قرب عربتي وفتشت كلّ من في الشارع وأنا معهم. أمسك رجل الحسبة علبة الدخان بيده وسأل: "ماذا عن هذه؟" فأجبت أني اشتريتها لأبي العجوز الذي يبذل قصارى جهده ليقلع عن التدخين.

لم يتوقف تهريب التبغ إلى المدينة بعد سيطرة التنظيم عليها. ذات صباحٍ داهموا رجلاً يبيع الجوارب الرجاليةً ويخفي علب الدخان تحتها. حالما شاهد البائع دورية الحسبة قادمةً نحوه شرع يركض. كان بعضهم يخرج السكائر من الجوارب وآخرون يطلقون النار باتجاه البائع الهارب. نظرتُ إلى علب السكائر المبعثرة على الأرض. لم أستطع أن أكبح نفسي عن التقاط خمس علبٍ ووضعها في جيوبي. في غضون خمس دقائق كان رجال الحسبة يحيطون بي، بينما الأمنيّ الذي شاهدني يبلغهم أني سرقت بعض السكائر. أُخذت إلى المحكمة الشرعية وقرّر القاضي قطع يدي اليمنى من المعصم. بدأتُ أبكي من الخوف متوسّلاً الرحمة. قال القاضي: "أحكام الشريعة غير قابلة للنقاش". بعد 3 أيام أُخذت إلى حديقةٍ عامّة. رُبطتْ قدماي إلى طاولةٍ خشبيةٍ، وكذلك يدي اليسرى. أحد رجال التنظيم، والذي كان يرتدي ثوباً أفغانياً أبيض ويمسك سيفاً كبيراً، قال لي: "أتريد أيّ شيء؟" فأجبت أني أريد الرحمة. فكان جوابه أن أخرس. فوراً بعدها قطع يدي وفصلها عن ذراعي. كنت أنزف بشدّةٍ، وحالما وقعت عيناي على يدي المقطوعة أُغمي عليّ. عندما استعدتُ وعيي وجدت نفسي في المشفى. وعندما وصلت إلى البيت استقبلني والدي بالبكاء، وقال: "الحمد لله أنها كانت فقط يدك".