هزات الزلزال الارتدادية والنفسية ما تزال تعصف بالسوريين

الاتارب

تصرّ الطفلة أماني ذات الثمانية أعوام على اعتقدها أن ما جرى ليلة 6 شباط الجاري، كان بمثابة حلم مزعج وليس حقيقة، وهي لا تكف تطالب والداها بالعودة إلى منزلهم الكائن في بلدة جنديرس بريف حلب.

حوّل الزلزال المدمر الذي ضرب جنوبي تركيا وشمال غرب سوريا، الحي الذي كانت تسكنه عائلة الطفلة أماني إلى أكوام من الركام التي تناثرت تحتها مئات الضحايا. وكانت سرعة استجابة والد الطفلة، وصمود البناء الذي كانت تقطنه العائلة لدقائق إضافية، حالا دون إزهاق أرواحهم.

حالة الإنكار

"قُدر لنا العيش، إلا أننا ما زلنا نعيش الصدمة" يقول والد أماني ويوضح بأن طفلته لا تفتأ تطالبه بالعودة إلى المنزل، وبأنها تشعر بالملل من زيارة أحد أقربائهم في مخيمات دير بلوط، وتقول أنها تشتاق لصديقاتها.

أصيبت الطفلة أماني بصدمة نفسية دفعتها لإنكار الكارثة كوسيلة دفاعية لديها باللاوعي، وفق ما يصف خبراء نفسيون هذه الحالة. فقد عاشت الطفلة تفاصيل الكارثة، منذ سماعها لصوت اهتزاز الأرض وانهيار الأبنية ونداءات الاستغاثة، إلى مبيتها ليلة في العراء وسط ظلام حالك وبرد شديد مع هطول المطر.

وبحسب خبراء في الطب النفسي، فإن الزلزال كأحد الكوارث الطبيعية يؤثر على الإنسان، فعندما يواجه شخص ما كارثة يتعرض لأمرين، الأول هو مرحلة الصدمة وذلك عندما يكون الشخص موجوداً داخل الزلزال أو رآه بعينه. وتتمثل أعراض الصدمة في الدوار، وعدم القدرة على التركيز، وعدم فهم طبيعة ما مر به، ثم يدخل الشخص بعدها مرحلة الإنكار، ما يعني أن الذي مر بالكارثة ينكر إحساسه بأن ما حدث كارثة أو يشعر أنه موهوم.

يوضح والد أماني أنه لم يتمكن من عرض طفلته على طبيب نفسي أخصائي، بسبب انشغاله في إيجاد مسكن لعائلته ومساعدة من نجى من الجيران، ناهيك عن افتقار المنطقة لمثل هذه التخصصات. فاكتفى بتلقي بعض التوجيهات من استشارية ناشطة في مجال الدعم النفسي، بهدف مساعدة طفلته على تقبل الوضع الجديد، دون مضاعفات خطيرة على صحتها النفسية.

"تمارين الاسترخاء، وطرق في التنفس، والكف عن إجبار الطفلة على تذكر الليلة، واتباع أسلوب بسيط لمحاولة توضيح ما جرى، وإشغالها ببعض النشاطات التي تحبها" كانت نصائح المرشدة التي راسلها والد أماني عبر تطبيق "واتساب".

ويقول خبراء نفسيون إن الزلزال الذي لم تتجاوز مدته عشرات الثواني فقط، يمكن أن يمتد تأثيره النفسي لوقت طويل، وتكون أهم الأعراض التي يعانيها الشخص الانشغال العقلي الدائم بالزلازل ورؤية كوابيس وأحلام مزعجة وصعوبة في التواصل مع آخرين، وعزلة اجتماعية وانشغال بفكرة الموت وفناء الجسد (قلق الموت) والخوف من فقدان عزيز، وربما يمتد لوساوس قهرية مثل تخيل حركة واهتزازات، وقد يعاني الشخص بعضاً من تلك الأعراض أو يعانيها مجتمعة بحسب الحالة.

ووفق منظمة "يونيسف"، فإن آلاف الأطفال ممن تعرضوا للزلزال أصيبوا بصدمات نفسية من جراء الكارثة، وبالأخص الأطفال في سوريا التي عانت أزمات إنسانية قبل الزلزال الذي تسبب في تفاقمها، وإن تقديم الدعم النفسي لهؤلاء الأطفال يأتي في الأهمية ذاتها مع تقديم الغذاء والعلاج الجسدي والحاجات الإنسانية الأساسية.

تفريغ المشاعر

على مدار ثلاثة أيام أجبرت طفلة السيد خالد ذات الستة أعوام عائلتها على النوم بالسيارة بدلاً من المنزل. وتقيم العائلة في بلدة معرة مصرين حيث شعر سكانها بقوة الزلزال، إلا أنها لم تسجل أي ضحايا أو انهيارات كبيرة بالأبنية.

يقول خالد أنه هرع في تلك الليلة مع عائلته وسكان المبنى جميعاً، بالنزول إلى الطريق بعد سماع صوت الزلزال والشعور باهتزاز البناء، ولأن الجو كان شديد البرودة جلس خالد برفقة زوجته وطفلته سلوى وطفلهم الرضيع في سيارتهم التي اتجه بها بعيداً عن المباني، وكانت الطفلة سلوى قد استيقظت على صوت الزلزال وأصوات الصراخ والبكاء، لذلك بقيت خائفة وتخشى العودة إلى المنزل لأيام عدة.

يقول والد الطفلة أنه يتحايل على ابنته بأعذار مختلفة، وحكايات وقصص تساعدها من الهدوء والطمأنينة، ويخشى بذات الوقت من كوابيسها المستمرة، واستيقاظها في كل ليلة وهي تصرخ وتبكي.

وبحسب عاملين في مركز "النفس المطمئنة التابع لمنظمة سامز بريف إدلب"، فإن حالة البكاء والكلام مع الوسط المحيط بالشخص الذي تنتابه آثار نفسية جراء صدمة الزلزال هو أمر جيد، على أن تجري عملية تفريغ المشاعر أمام مختصين، أو أشخاص يمتلكون وعي كافي للتعامل مع الحالة ولا سيما الأطفال.

وتشير الظواهر الأولية إلى أن آثار الزلزال النفسية ربما ستستمر لفترة ليست بالقليلة، لا سيما مع استمرار وسائل الإعلام والناس بالحديث عنها، وعدم هدوء النشاط الزلزالي الذي مازال يهز المنطقة.

دوار ما بعد الزلازل

بينما تؤكد السيدة ضحى (23 عاماً) من سكان دركوش بريف إدلب، أنها لم تخلد لنوم عميق منذ ليلة الزلزال، "يرافقني صداع مستمر وغثيان ودوار وهلع من أي صوت قوي أو دوي".

لم تخلع ضحى مع أطفالها ملابس الخروج من المنزل، كما أنها ترفض أن تخلع الحجاب عن رأسها حتى خلال ساعات نومها القليلة، وتبقى مستعدة في كل لحظة مع أي هزة مفاجئة لمغادرة المنزل، وتقضي طيلة يومها بتتبع تحديثات الهزات وكلام خبراء الجيولوجيا، ولا تصدق منهم إلا من يتنبأ بحدوث زلازل أخرى في المنطقة.

تقول: "منذ ليلة الزلزال لم أدخل لغرفة النوم حيث شعرت ببداية الاهتزاز، كما لا أستطيع أن أقوم بأي من أعمال المنزل، وأعاني حالة قلق وخوف مستمر لم تنفع معه أقوى أنواع المهدئات".

ويصف الطبيب النفسي جلال نوفل، والذي يعمل ضمن مبادرة "العلاج النفسي أونلاين" لتقديم الاستشارات والدعم النفسي، أن الحالة التي أصابت السيدة وتصيب نسبة تصل إلى 30 بالمئة تقريباً من الأشخاص الذين عاشوا الزلزال، هي ما يعرف بـ "متلازمة دوار ما بعد الزلزال (PEDS)"، فعندما يحدث الرعاش القوي في الجسم الذي تتسبب به الزلازل، يتعارض مع الأداء الطبيعي ويسبب خللاً قد يكون له تأثير طويل بعد انتهاء الزلزال.

ويوضح الطبيب أن بعض الحالات تسبب التوتر والقلق من خلال تذكر الزلزال، مما يؤدي بالناجين إلى الاعتقاد خطأ أنهم يتعرضون لزلزال، لكنهم في الحقيقة في مكان لا يحدث فيه أي هزة، وهذا ما يعرف بـ "متلازمة الدوار بعد الزلزال PEDS"، والتي تحدث عندما يكون هناك عدم تطابق عصبي بين آلية التوازن في الجهاز الدهليزي للأذن الداخلية، والإشارات الحسية من الأعصاب في العينين والقدمين.

كما يشير إلى أن أعراض متلازمة دوار ما بعد الزلزال المميزة غير محددة، وتختلف من شخص لآخر، وتتراوح هذه الأعراض بين تأرجح وهمي في الجسم، وهي شعور بأن القدمين وكأنهما يتأرجحان في الهواء، ويستمر أقل من دقيقة واحدة ولعدة مرات بعد الزلزال، إضافةً لاضطرابات النوم، وطنين الأذن والقلق والتعرق، ومشاكل في وظيفة الجهاز البولي والرؤية والحمى والقيء.

نوعان من الأشخاص بعد الكارثة

نجى أبو راشد وهو لاجئ سوري كان يقيم بمنطقة كرخان بتركيا من الموت، وحالت دقائق قليلة بينه وبين انهيار المبنى ذو الثمانية طوابق الذي كان يقطنه، حيث استطاعت العائلة القفز من الطابق الثاني الذي أصبح أقرب إلى الأرض مع لحظات انهيار المبنى.

هام الرجل مع عائلته ليلةً في العراء، وحاولوا الاحتماء بخيمة صنعوها من بقايا البطانيات التي تطايرت من الأبنية المنهارة حولهم. ومع طلوع خيوط الفجر الأولى اتجه أبو راشد مع عائلته لموقف الكراج، واستقلوا أول سيارة صادفوها دون أن يحددوا وجهتهم، ليصلوا خلال ساعات إلى منطقة بورصة عند أحد أقربائهم.

يقول أبو راشد أنه حاول طيلة الساعات التي تلت الكارثة عدم التفكير بما جرى، ولا حتى الحديث مع عائلته عما تعرضوا له، وماذا سيحل بهم. 

"عندما وصلنا إلى بورصة وأنا ببيجاما النوم كما خرجت من منزلي، ظننت أنني سأنام ليومين على الأقل" يقول أبو راشد. ويوضح أنه لم يستطع النوم منذ ليلة الواقعة إلا إغماءً لساعات قليلة من شدة التعب، ودائماً ما تطارده كوابيس النوم وتخيلات اليقظة التي يسمع خلالها صرخات الجيران، ويطن بأذنيه صوت انهيار المبنى واهتزاز الأرض، وتتعاقب أمامه صور بعضهم التي تحت لأشلاء، كما أنه لم يكتفِ بما رآه بأم عينه ليلتها، إنما يستمر بالبحث ومتابعة الأخبار ومقاطع الانتشال وانهيار الأبنية.

ويؤكد العشرات من الناجين معاناتهم من الأعراض ذاتها، إذ يحجمون عن النوم ويعانون من قلق وصداع، يرافقه تأنيب الضمير، والشعور بالذنب بأنهم نجوا وتركوا غيرهم يموتون.

ويميز الطب النفسي بين نوعين من الأشخاص، فهناك من تعرض للكارثة، وآخر شاهد على مَن حدثت لهم الكارثة، الأول يدخل مرحلة الصدمة مباشرة ثم مرحلة الإنكار، يلوم ويعاتب ويسأل نفسه: لماذا حدث له ذلك. ويحاول التحدث مع الله لفهم ما حدث له، ثم يدخل مرحلة الاكتئاب، ويشعر بالضيق والقلق والتوتر، وأنه ليس هناك مستقبل، ويفقد الشغف، ويتمنى الموت، خاصة الذين فقدوا منازلهم أو أشخاصاً عزيزين عليهم.

وأما عن الذين شاهدوا الزلزال ولم يتعرضوا لخسارة أو كارثة، فتكون المراحل أقل حدة من الأشخاص السابقين، ويتعرضون لاضطراب ما بعد الصدمة، فتراودهم أفكار بسبب تكرار المشهد أمام أعينهم وأثناء النوم، كأنهم يعيشون ذلك الموقف مرة ثانية وثالثة، ويشعرون بالتوتر والقلق، وأحيانًا يحتاجون علاجاً دوائيّاً أو سلوكيّاً لتخطي تلك المرحلة.

وبحسب الطبيب جلال نوفل، فإن الآثار النفسية التي تصيب الأشخاص بعد الزلزال، من الطبيعي أن تزول بعد فترة يجب أن يتم خلالها إظهار التكاتف والتعاطف الكبير مع الأشخاص الذين تبدوا عليهم الأعراض أكثر من غيرهم، وكلما تحسنت حالة الشخص بشكل أسرع فإن ذلك يساعده على النسيان والتأقلم مع ما حصل دون أعراض نفسية مستقبلية. ويوضح النوفل أن 15 لـ 40 بالمئة من الأشخاص يمكن أن يعانوا من اضطرابات نفسية قد تمتد لفترة طويلة، مع التأكيد على أن معالجة الحالات في بدايتها يساعد بالتخفيف من حدتها أو استمرارها.

لكن تشابه الأعراض والآثار النفسية التي يصاب بها من تعرضوا للكوارث، لا يعني أنه يمكن اتباع العلاج النفسي ذاته، لاختلاف حالة عن أخرى، فمن الممكن جداً أن تتحول الآثار النفسية عند أشخاص إلى أمراض ربما تصبح مستدامة، وخاصة عند الشخص الذي يعاني هشاشة نفسية، فهم بحاجة للتدعيم النفسي والعلاج الدوائي أيضاً.

لكن يبقى أن ضعف الإمكانيات في شمال غرب سوريا التي عجزت عن إنقاذ العشرات من تحت الأنقاض أو انتشال جثثهم، تقف عاجزة عن معالجة أو دعم مئات الأنفس التي أثقلتها سنين الحرب ودمرها هول الزلزال، مع انشغال الناس بالعثور عن مأوى لعوائلهم وبعض البطانيات لرد البرد عن أجساد أطفالهم.