نشأة وترعرع جيل ما بعد الإبادة (2) من (2) روايات حول المجازر في رواندا

لاجئون روانديون يعبرون حدود روسومو إلى تنزانيا قادمين من رواندا يحملون متعلقاتهم وماعزهم وفرشاتهم وأبقارهم - 30 مايو 1994 - رويترز / جيريميا كاماو

سوزي لنفيلد
 عن مجلة Dissent الفصلية- خريف 2018
 ترجمة مأمون حلبي 

هل يمكن للمرء أن يحبّ شخصاً مارس التعذيب -حتى، أو خصوصاً- إن كان من أقرب المقربين؟

الصحفي الفرنسي جان هازفيلد هو مؤرخنا الكبير للألم والحزن. في سلسلة لافتة من الكتب، مكتوبة بالأصل باللغة الفرنسية ونُشِرت على مدار الخمس عشرة سنة الأخيرة، وثّق هازفيلد الإبادة الرواندية من خلال كلمات الناجين التوتسي والمرتكبين الهوتو –والآن من خلال كلمات أبنائهم.

هل يمكن بناء رواندا لا عرقية؟ إنّ هذا الهدف، إلى جانب عملية المصالحة، هو السياسة الرسمية للحكومة الرواندية الحالية (الكلمات "هوتو" و"توتسي" يُحظر استخدامها)، ويبدو أن كل اليافعين في كتاب هازفيلد يقرّون بضرورة هذه السياسة وقيمتها، فجميعهم يبدون متفقين بهذا الخصوص، على الأقل ظاهرياً، لكن مشاعر التضامن العرقي متجذّرة حتى ولو كانت مقموعة رسمياً.
 
إحدى المجموعات المكوّنة من فتيات من التوتسي، بنات لناجين من الإبادة، تجتمع سراً في المدرسة. بالنسبة إلى التوتسي يُشكّل ذلك، جزئياً، طريقة يحترمون من خلالها معاناة أسلافهم ويحافظون على اليقظة التي فرضتها هذه المعاناة. تشرح نادين (ابنة أب مرتكب وأم ضحيّة مغتصبة) هذا الأمر: "يخفق قلبي بالتعاطف مع التوتسي. فأنا واحدة من الناس الذين تنهشهم ذكرياتهم".
 
هذا موقف وجداني يعترف به اليهود والكرد والأرمن وشعوب أخرى مضطهدة، لكن شأن كل كتب التاريخ التي تُبنى على المرويات الشفهيّة، كتاب "Blood Papa" ذاتيٌّ جوهرياً، وهذا يعني أنّه لا يوجد فيه بالمطلق أي انتقاد أو تحليل لجرائم الحكومة الرواندية بحق الهوتو في جمهورية الكونغو الديمقراطية، على سبيل المثال، أو لسياسات الرئيس كاغامي القمعيّة.

رويليليزا اينوسنت مدرّس لمادة التاريخ في إحدى المدارس الثانوية، ومن الناجين التوتسي، ووالد إيماكوليه وإنجي اللتين سبق ذكرهما. يقول ملاحظاً "أول سؤال يطرحه أي طالب جديد يكشف عن عِرقه... مشاعر القلق لديهم مختلفة كلياً. الطلاب ليسوا قلقين بنفس الطريقة، فهم لا يستخدمون نفس الكلمات". وأبناء الناجين، حسب قوله، قد تغلّبوا على الشعور بالذنب والخجل من آبائهم، عوضاً عن ذلك "يُخفون رغبة جامحة بالانتقام"، إلى جانب الكراهية والغضب. ويبدو أنّ إيماكوليه تُظهر صواب كلام والدها بقولها "إنني أحتقر الناس الذين قد تسببوا بكل هذا الألم. عندما كنت طفلة كنت آمل أن أراهم مصفوفين في رتل وأن يُردوَنَ قتلى بالرصاص... لكن الزمن ألهمني أفكاراً أكثر تعقّلاً، فالتأنيب على تلك التصورات كان له تأثيره. لا يمكن للأطفال أن ينتقموا لآبائهم إن لم يكن الآباء أنفسهم يفكرون بالانتقام".
 
كذلك أيضاً الشباب الهوتو يخفون مخاوفهم وامتعاضهم، مع أنّ اينوسنت يقول إنهم "يعترفون أنّ جرائم آبائهم قد عقّدت حيواتهم". 

بين الحين والآخر، يجري رفض مشاعر التضامن العرقي. تقول فابيولا (19عاماً) بإصرار: "أعتبر نفسي رواندية، وهذا كافٍ بالنسبة إلي". غير أنها بخلاف آخرين جرت مقابلتهم في هذا الكتاب، ويعتزّون ببلدهم وقارتهم، تأسرها الرغبة بمغادرة رواندا ومتاعبها وربما عار عائلتها: "أريد العيش في إيطاليا. لقد سمعت أنهم هناك يعيشون بسلام وهدوء، حيث لا انتماءات عرقية ولا سواطير... يسِمُ جو من السعادة كل شيء إيطالي بميسمه، إنه أمر يبعث على السرور والبهجة".

الزواج المختلط بين الهوتو والتوتسي نادر جداً، وكل الشخوص يتفقون أنّ الهوتو والتوتسي الشباب أبداً لا يُناقشون الإبادة التي حصلت مع بعضهم بعضاً. فبالرغم من التاريخ الذي يتعلّمه الطلاب في المدرسة، لا توجد رواية مشتركة للأحداث التي مرّت. تقول إنجي إنّ ما يوحّد المجموعتين هو الامتعاض وغياب الثقة، وليس البحث عن الحقيقة. مع ذلك -وهو أمر له مغزاه- تصر إنجي على أنها لا تخشى المستقبل، وهذا ما يُعتبر إنجازاً بالغ الأهمية في بلد عاش فيه التوتسي لأجيال تحت وطأة الخوف من تكرار دورات العنف الجمعي. "لم تعُد سواطير المزارعين تُخيف أحداً لأنّ الناس استفادوا بكل امتنان من سياسة المصالحة الوطنية"، تقول أنجي. 

لكنّ ساندرا، وهي أيضاً ابنة أحد الناجين، تعبّر عن مشاعر أكثر تضارباً: "لم يعد بوسع أولئك الذين تلطّخت أيديهم بالدماء أن يتباهوا بقوتهم بنفس الطريقة... يرمقنا السجناء السابقون بنظرات كريهة، كما لو أنهم ما زالوا يلومون الناجين على عدم كونهم موتى عوضاً عن ملامة أنفسهم على ما كانوا قد اقترفوه. لا يستولي عليّ الذعر من رؤية السواطير، فليس ثمة ما هو خطِرٌ تخبئه لنا الأقدار. ومع ذلك، أخاف من تلك النظرات الكريهة بطريقة لا أستطيع شرحها... هل بإمكانهم أن يتخيلوا ما كابدناه؟ لا أعتقد ذلك". 

المستقبل فقط هو الكفيل بإظهار الطريقة التي من خلالها سيتم التوفيق بين المصالحة الرسمية والمشاعر الذاتية وتركيبهما في كلٍّ واحد، ليس فقط بين أفراد هذا الجيل، وإنما بين أبنائهم أيضاً. على هذه المسألة يتوقف مستقبل رواندا.

عام 2006 سافر جوناثان تورغوفنيك، وهو مصور فوتوغرافي إسرائيلي انتقل للعيش في جنوب أفريقيا، إلى رواندا ليُجري مقابلات مع نساء سبق أن اغتُصِبن أثناء عمليات الإبادة. صَوّر النساء المُغتصبات مع أطفالهنّ الذين حملنَ بهم كثمرة لعمليات الاغتصاب. كانت مجموعة الصور هذه من أجل سلسلة سُمّيت "عواقب مقصودة"، وقد شاهدتها في معرض في نيويورك، وبرأيي فإن الصور كانت جميلة بشكل مؤثر للغاية، وإن بطريقة صادمة: كانت النسوة توحينَ بالأنفة والإحساس بالكرامة، وكان للأطفال تحديقات رزينة، عفوية وصادقة، وخلفيات الصور جميلة وتضجّ بتشكيلة من الألوان الزاهية، مع ذلك كان حزن عميق يغمر هذه الصور ويعبّر عن مدى الإنهاك الذي حلّ بأصحابها.

رافق الصور شهادات من النساء، اللواتي كثيرات منهنّ كنّ يتكلمنّ عن مِحَنهنّ للمرة الأولى. بعد أن قرأت بعض هذه الروايات، هربت من المعرض، مع ذلك أجبرت نفسي على العودة من أجل زيارة ثانية. كانت حكايات تلك النسوة من بين أكثر الشهادات التي قرأتها رعباً وألماً حتى الآن.

 كما هو حال كتب هازفيلد، تجعل هذه الشهادات المرء يواجه هذا النوع من السادية التي تُخلُّ بالعقل، والتي سمّاها [الكاتب الإيطالي الناجي من الهولوكوست] بريمو ليفي في آخر كتاب ألفه قبل أن ينتحر "العنف العبثي الذي لا يبتغي غاية". 

عدد كبير من النسوة الروانديات، اللواتي كنّ غالباً مراهقات صغيرات في ذلك الوقت، جرى اغتصابهنّ لأسابيع، ومُرّرنَ وهنّ ينزفنَ ويضربنَ ضرباً مُبرّحاً من رجل لآخر. بعض النسوة عانين من غرز الرجال لأظافرهم في أجسادهنّ، أو من إدخال أشياء حادة في أعضائهنّ التناسلية. بعضهنّ أجبرن أن يشهدن قتل أخريات، أو أن يشربن دم عائلاتهنّ. سأوفر عليكم تفاصيل أخرى عن آلام تلك النساء، لكن لن أوفر عليكم الأسئلة التي تُثيرها تلك الشهادات، ويُثيرها بريمو ليفي.

يُلاحظ ليفي بحق أن غياب المعقولية ليس أمراً ملازماً للحرب والعنف. "هل يوجد شيء من قبيل العنف النافع؟ لسوء الحظ، نعم". وهو يحاجج أنّ الحروب "مقيتة... لكن لا يمكن اعتبارها عبثيّة: الحروب ترمي إلى غاية، بالرغم من أنّ هذه الغاية قد تكون شريرة أو شاذة". في حين أنّ العنف العبثي لا يبتغي قيمة استعمالية، عسكرية كانت أم سياسية: إنه لغو وحشي. العنف العبثي عالم مغلق، "غاية في ذاته، مقصده الوحيد إيقاع الألم". ومع أنّ العنف العبثي يتخذ هذا الاسم، إلا أنه شكل من أشكال التعذيب بطريقة لا يمكن إنكارها.

يتساءل ليفي، لماذا أُجبِر قاطنو مأوى العجَّز والمسنين اليهودي في مدينة البندقية على أن يكابدوا الرحلات المؤلمة في عربات القطار المخصصة للماشية في طريقهم لإحدى معسكرات الموت البولونية عوضاً عن أن يُقتلوا بكل بساطة في أسرّتهم؟ لماذا كان نزلاء المعسكرات يخضعون للتعري القسري، والوشم بالحديد المحمّى، وما يُسمّى بالعمل الذي لا يهدف لأي مردود قبل موتهم المحتّم؟ ما الغاية من محاولة جعل الذين تمت إدانتهم يعانون من الإذلال بأقصى درجة ممكنة، ويموتون بأكبر درجة ممكنة من الألم؟ ويُلاحظ ليفي أنه في ظل سلطة "الرايخ الثالث" (الفترة التي كان فيها النازيون في السلطة في ألمانيا) "أفضل خيار... هو ذاك الخيار الذي يستَجّر أقصى قدرٍ من الألم... أقصى قدر من المعاناة البدنيّة والأخلاقية. "العدو" يجب ألا يموت فقط، بل يجب أن يموت وهو يكابد العذاب البدني والنفسي". 

ينطبق هذا الأمر على أحداث رواندا. وهذه النوعية المحيّرة لهذا العنف، التي تتموضع -كما تقول سيلفي- خارج سياق كل ما هو بشري، برأيي هي ما يُخيّم بشبحه على أذهان أطفال الناجين والمرتكبين على حد سواء، وكما قالت كلودين لهازفيلد "أن تخذلك الحياة... من يستطيع أن يتحمّل ذلك؟".

في كتاب " Blood Papa" يتجسّد العنف العبثي بأفعال فولجانس بوناني المذكور سابقاً الذي طرح حجّة شاذة تُثير العجب في كتاب "موسم السواطير"، وترى هذه الحجة أن هول جرائمه بالذات هو ما يُشكّل ضرباً من الحصانة في وجه تجريمه "ما فعلناه يتجاوز تصورات البشر، لذا من الصعب جداً إصدار حكم علينا... بناء على ذلك أعتقد أنّ علينا أن نكون مزارعين كما كنا من قبل، لكن هذه المرة مزارعين بأفكار صالحة". 

شأن كثيرين من الذين شاركوا في عمليات القتل، استفاد فولجانس من عفو عام سنة 2003، لكن بعد سبع سنوات من ذلك تغيّر حظه فجأة: محاكمة محليّة في إحدى القرى أعادته إلى السجن مدى الحياة. ماذا كانت جريمته؟ حسب وصف الشقيق الشاب للضحيّة، انتزع فولجانس أحشاء إرنستين كانيزا بعد أن شق جسمها فاتحاً إياه "من أعضائها التناسلية وصولاً إلى ذقنها"، وكانت إرنستين حاملاً آنذاك. جنينها "بُعثِر إلى نتف صغيرة بجوارها". وأخت إرنستين "أُخِذت بعيداً عن المكان من قِبل جمهرة القتلة... انتُزِعت ملابسها حد العري التام، وقطّعت بالسواطير، يُرافق ذلك صرخات الابتهاج والتعليقات البذيئة الصاخبة لحشد كبير". ملحوظة هامة: كان فولجانس وإرنستين جارين حميمين.
زوجة فولجانس وأولاده، شأن أقرباء كثيرين من القتلة النازيين، يفعلون ما بوسعهم لإنكار فظاعة وعبثيّة هذه الجريمة. تسأل الزوجة جاكلين "هل أعتقد أنّ فولجانس قادر بطبعه على الجريمة الفظيعة المرتكبة بحق إرنستين؟ الزوجة في داخلي تجيب بالنفي... لو كان قد صار جزاراً مثل الآخرين لكنت قد لاحظت ذلك في تلك الليلة في غرفة نومنا". 

لدى أولاده أسئلة أيضاً؛ يسأل جاك "هل أعرف إن كانت عقوبة والدي منصفة؟ ليس لديّ تفاصيل كافية سوى ما يقوله الناس". لكنه يعترف: "أحلامي تملؤني بالذعر في الليل. رؤىً فظيعة تمر أمام ناظري".
أيمكن لأحدنا أن يُحبّ شخصاً مارس التعذيب –حتى، أو بالأخص- إن كان القريب الأكثر حميميّة؟ أيمكن لأحدنا أن يغسل دمه من دم أبيه؟ هذا أحد الأسئلة الفظيعة، وعلى الأرجح العصيّة على الإجابة، التي أورثها الهوتو الأكبر سناً لأبنائهم وبناتهم السيئِ الحظ. ويبدو تعليق جان هابيمانا، ابن سجين سابق من الهوتو، غير قابل للدحض: "تعلّمنا الإبادة دروساً يستطيع الشخص الشاب أن يستغني عنها بكل سرور".

يبقى الماضي مسألة مفتوحة بالنسبة إلى أولئك الروانديين الشباب، وهذا ما يُعتبر أحد الأشياء الأكثر جدارة بالإعجاب بهم، لقد تجنّبوا ما سمّاه [الفيلسوف والسوسيولوجي] ثيودور أدورنو "تسيّد/التمكّن من" الماضي: أي الاعتقاد المتعجرف أنّ أحداث التاريخ الكارثية يمكن -وبشكل كليّ- أن تُفهم وتُفسّر ويُكشف عن منطقها وتُعالج، ويتم التفكير فيها ضمن السياقات التي أحاطت بها (بلغة وقتنا الحاضر تقديم صياغة نظرية تستوعبها) وبعد ذلك، يجري طيّها بأناقة ووضعها على الرف المناسب لها. 

الشباب الروانديون الذين تحدّث إليهم هازفيلد أقرّوا زيف هذه المقاربة ببراعة تفوق بكثير براعة معاصري أدورنو الذين كانوا أكبر سناً وأفضل تعليماً منهم. وكما يوضّح جان هابيمانا، شاب من الهوتو، "في وقتنا الحاضر لا نتطلّع إلى النسيان، لكني لا أعرف عمّا نبحث. تأثير الماضي لن يتلاشى. قتل المرء لجيرانه كالحيوانات خطبٌ جلل... إنه تاريخ غير طبيعي". 

بالنسبة إلى ورثة الإبادة، ليس الماضي بلداً أجنبياً، بل إنه بلدهم هم. يمكن للإبادة والفظاعات التي تستجرها أن تُثير حيرة حتى الكتّاب الأكثر حنكة من حيث التحليل والأكثر اطلاعاً على التاريخ. هذا لا يعني أنّ عليهم أو علينا نحن أن ننفض أيدينا من عملية الفهم بيأس، أو نلتجئ إلى أفكار غيبية تتعلق بالقضاء والقدر، والمصائر المقسومة للشعوب، أو تتعلق بالشر المتأصّل داخل الإنسان، على العكس من ذلك: فأن نفهم لهوَ أمر أساسي، لكن من ناحية أخرى عمل شاق، ويعتريه النقص على الدوام، بل قد يكون عملاً سيزيفياً في المآل الأخير، نعاود العمل عليه من جديد بعد كل إخفاق، وهذا يعني أنه لمن الحكمة والتعقّل أن نقارب الأحداث التاريخية التي نصنعها بإحساس عميق من التواضع يشبه الإحساس الذي يَسِمُ عمل هازفيلد.. قتل المرء لجيرانه كالحيوانات خطبٌ جلل.