نساءٌ متّشحاتٌ بالسواد يغالبن جوع أطفالهنّ بالتسوّل

كما كان للحرب دورٌ في إفراز العديد من الظواهر السلبية، فإن لها دوراً أيضاً في استفحال العديد من تلك الظواهر التي كانت منتشرة أساساً وجاءت الحرب لتفاقمها. هذا ما يخطر في ذهنك وأنت تسير في شوارع الميادين أو تتوقف في أماكنها العامة، لترى العديد من النساء المتشحات بالسواد يبسطن أيديهنّ أمام كلّ عابر.

"عين المدينة" حاولت رصـــد هذه الظاهرة التي قد تبدو مألوفة، إلا أن تفاقمها لا بد أن يقود للبحث في أسبابه. السيد ناصر طه المحمد، والذي يعمل في إحدى الجمعيات الخيرية العاملة في مدينة الميادين، قال: غالبية الناس، وإن كانوا يقدّمون للمتسوّلات بعض النقود، إلا أن ذلك كان يترافق في أغلب الحالات بنوعٍ من الازدراء الشديد لهذا السلوك، ونادراً ما تجد من يتعاطف معهنّ. إلا أن هذه الحالة تغيرت وانقلبت بعد تحرير الميادين إلى حالةٍ من التعاطف والشفقة، والسبب في ذلك هو تغير الشريحة الاجتماعية التي تمتهن هذه المهنة. فقد اعتدنا على لهجةٍ معينةٍ للمتسولات، وهنّ اللواتي ينتمين إلى من نسميهم في منطقتنا "القرباط"، والنسوة منهم لا يتسولن لتحصيل قوت يومهنّ بل لأن التسول صار صنعةً يتقنّها وتدرّ عليهنّ الكثير من المال، وبعضهن لا يعانين أبداً من مشاكل مالية، وما يشاع عن امتلاك الكثير منهنّ مبالغ كبيرةٍ من المال ليس بعيداً عن الحقيقة. إلا أن الجديد في هذه الظاهرة ليس فقط انتشارها بكثرةٍ في الأشهر الأخيرة، وإنما تغير اللهجة التي نسمعها منهن. صرنا نسمع لهجة أبناء الدير وريفها، أي أن نساءً من بلدنا يتسولن، وبالتأكيد لم تجبرهنّ على ذلك إلا الفاقة. وبالإضافة إلى تسول المال في الشوارع والأماكن العامة، صار من المألوف أن تجد سيدةً تقف أمام مطعم فلافل مثلاً أو سوبر ماركت أو فرنٍ لتطلب سندويشاً يسد جوعها، أو عدة أرغفةٍ تأخذها لأطفالها. وبالتزامن مع هذه الظاهرة انتشرت ظاهرة الأطفال المتسوّلين، الذين يحمل معظمهم بعض المواد التي تستخدم في المنزل، وذات الجودة المنخفضة، لعرضها على ربات البيوت، ويتعامل الناس معها على أنها شكلٌ من أشكال التسوّل المقنّع، فيتعاطف الأهالي مع هؤلاء الأطفال. تبذل الكثير من جمعيات الإغاثة دوراً كبيراً في مساعدة هؤلاء، إلا أن حجم الاحتياج يتجاوز بكثيرٍ حجم الإمكانات المتوافرة بين يديها. ومن جهةٍ ثانيةٍ هناك من يمارس الخداع في هذه المسألة بحيث يأخذ من المعونات كميةً تفوق احتياجه، والتي من المفترض أن تترك لمثل هؤلاء.
الحاجة نورة، إحدى السيدات اللواتي يسألن الناس المساعدة، التقتها "عين المدينة" في كراج الميادين، والذي يعتبر مركزاً أساسياً من مراكز تسوّل النساء. وبينما تنتقل بين حافلةٍ وأخرى كانت تسرد قصتها: كنت أقيم في حيّ الحميدية وكانت أمورنا مستورة ولله الحمد. زوجي متوفى وكنت أخدم في البيوت وأعيل أبنائي. بعد الثورة استشهد ابني البكر وانتقلنا إلى الميادين. كان ابني مقاتلاً في الجيش الحرّ، وحين استشهد فقد أبناؤه معيلهم الوحيد. ترك لي خمسة أطفالٍ وزوجته، ولديّ بالأساس ثمانية بناتٍ كلهنّ من دون دراسة، لأنني بالكاد أحصل لهنّ على ما يسدّ رمقهنّ. حاولت العمل هنا في البيوت ولم أوفق، وإن وفقت إلى عملٍ فهو لا يكفي أبداً لأسرةٍ مؤلفةٍ من خمسة عشر شخصاً. لم أجد عملاً يمكن أن يؤمّن لنا ما نحتاجه غير سؤال الناس.
وحول الحلول المطلوب إيجادها لمعالجة هذه الظاهرة التقينا بالشاب محمود صبحي، العامل في إحدى الجهات الإغاثية، فأفادنا بالقول: من الصعب إيجاد حلٍّ نهائيٍّ لهذه الظاهرة، لأنها ستبقى موجودةً ما دام الفقر موجوداً، ولكن يمكن بالتأكيد التخفيف من حدّتها عن طريق تنظيم جهود الإغاثة، والتأكيد أكثر على إشاعة مظاهر التكافل الاجتماعي في المدينة.