منجم النحاس الذي سينضب قريباً

محولة كهربائية بعد تعرضها للنهب | دير الزور

لم تكن مسألة البنى التحتية وأملاك الدولة تعني شيئاً لفئاتٍ كبيرةٍ من المجتمع، خاصةً تلك الفئات المهمّشة التي تقع خارج مجتمع النظام السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ. ومع بداية الثورة ظهر اهتمامٌ مفاجئٌ بهذه المسألة، لا يزال يسيطر على حيّزٍ مهمٍّ من ثقافة الفئات الثورية. فلا تكاد تخلو جلسةٌ خاصّةٌ أو عامةٌ من مناقشة هذا الموضوع، والإلحاح على المحافظة على هذه البنى التي ترجع ملكيتها إلى الشعب أولاً وأخيراً. وعلى الرغم من ذلك، تجد أملاك الدولة تحت رحمة اللصوصية والإتلاف، فمن يقف وراء ذلك؟

يقول أحد موظفــي شـركة الكهرباء، المفصولين من الوظيفة لاشتراكهم بالعمل الثوري: "إن ما يقارب الأربعين محولة كهرباءٍ خرجت من الخدمة في المناطق المحرّرة؛ عشرةٌ منها بسبب القصف، والباقي بسبب سرقة النحاس منها. لقد أتلف القصف أجزاءً كبيرةً من شبكة توصيل الكهرباء، ويقوم موظفو الشركة بالاستفادة من الكابلات التالفة في توصيل كابلاتٍ أخرى ما تزال في الخدمة، لكنهم يتركون الباقي لمصيره، في مدينةٍ أصبح ينطبق عليها المثل المعروف (المال السايب يعلم الناس على السرقة)".
يرفض موظفو شركة الكهرباء الإدلاء بأيّ تصريحٍ رسميٍّ عن هذا الموضوع، خوفاً من أن يقطع النظام رواتبهم. لكن موضوع الكابلات لم يعد خافياً على أحد، إذ بات هناك مختصّون بجمع الكابلات وبيعها. يقول محمد، أحد سكان حيّ الحميدية: "يجمع الحوّاجون الكابلات في الخرب - في الغالب بجانب مخبز النور - ثم يقومون بإحراقها لاستخلاص النحاس منها وبيعه؛ منهم من يبيعه في الأحياء المحرّرة بسعرٍ زهيدٍ لا يتجاوز 300 ل. س للكيلوغرام، ومنهم من يبيعه خارجها بسعرٍ يتجاوز 800 ل. س للكيلوغرام. ولكن إخراج النحاس أمرٌ صعب، ويحتاج إلى طرقٍ ملتوية، ومعارف لتمريره من حواجز مدخل المدينة". فالهيئة الشرعية تمنع إخراج هذا النحاس، وقد صادر عناصرها كمياتٍ كبيرةً منه، وتحتفظ به في مستودعاتٍ خاصّةٍ بالمصادرات. ويتابع محمد مؤكداً: "جاري في الكتيبة الأمنية. وقد حاول القبض على هؤلاء الحوّاجين أكثر من مرّة، حتى دون أمرٍ من الهيئة، لكنه لم يجد لهم أثراً. فهم يجمعون الكابلات بعد منتصف الليل، ويقومون بإحراقها. وأثناء ذلك يختبئون في مكانٍ قريبٍ منها، بحيث يراقبونها دون أن يعرف أحدٌ هويتهم... لكنني سمعت أن لدى بعضهم تصريحٌ من الهيئة، تسمح لهم بموجبه بجمع الخردوات وقطع الحديد من الشوارع (التحويج)".
فإذا كان موضوع حراسة البنى التحتية يكاد يكون مستحيلاً، كما يرى بعض الناشطين، والأمر متروكٌ لوعي الناس ومبادرتهم بحماية ما يوفر الخدمات العامة لهم؛ أفلا يوجد ما تقدّمه الجهات المسؤولة عن إدارة المناطق المحرّرة؟ يقول أحد أعضاء المجلس المحليّ: "نحن مستعدون لمساعدة موظفي شركة الكهرباء بجمع الكابلات التالفة. لكن، كما أعلم، فإن الشركة نفسها تتعرّض لمحاولات السرقة باستمرار، وهم يعانون الأمرّين في حماية مستودعاتها. كما أنهم يرفضون تخصيص حرسٍ لها من الهيئة أو من الكتائب، وذلك لتجنيبها قصف النظام". "لكن موظفي الشركة لم يقفوا مكتوفي الأيدي"؛ يستدرك صديقه - وله أخٌ موظفٌ في الشركة - "فقد وقفوا بحزمٍ مؤخراً حين علموا أن أحدهم سرق محوّلة كهرباءٍ من حيّ الصناعة، وقطعوا التيار عن الأحياء المحرّرة، وأخبروا الهيئة لتأخذ دورها. لكنهم تراجعوا عن موقفهم تجنباً للصدام أو للتصعيد الذي بدأ بتهديدهم بالقتل".
على أن استخراج مادة النحاس لا يقف عند هذا الحدّ، بل يتجاوزه ليشمل مولدات الكهرباء في دوائر الدولة. وعددٌ من هذه المولدات يستفاد منه عند انقطاع الكهرباء، لكن بعضها الآخر أتلف من أجل النحاس. وعن ذلك يقول أحد مهندسي الكهرباء: "هناك مولداتٌ يصل سعر الواحدة منها إلى نصف مليون دولار، أتلفها اللصوص من أجل خمسين كيلوغراماً من النحاس! فإلى متى يقف الناس متفرجين وأملاكهم تسرق أمامهم!".