مخبرو تنظيم الدولة
مشاهد من مدينة دير الزور

حي العمال - عدسة من ديرالزور- خاص

من الصعب وصف الحياة في مدينة دير الزور إلا بأنها عجائبية. فالمدينة لم تعد صالحةً للحياة، بسبب الدمار الكبير وتوقف سبل العيش أمام الأهالي، الذين لا يتجاوز عددهم بضعة آلافٍ بكثير، في ظل فرض تنظيم الدولة الإسلامية البؤس والقهر فرضاً، بوضع الجميع تحت مجهر عناصره وأعوانه، ودفعهم إلى التوبة عن الكرامة.

في حيّ العمال، جنوب المدينة، بعد أن قصفت الطائرة بقليل، وتفرّق الناس عن الخراب الذي أضافته إلى الخراب السابق؛ شاهد أبو إبراهيم العمال، من بيته القريب، شاباً غريباً يصوّر في الحارة بجواله، فتوجه (متطوعاً) إلى نقطةٍ قريبةٍ للأمنيين وأخبرهم بأمر الشاب، معتقداً أنه «يصوّر مقرات»! اعتقل الأمنيون الاثنين، وبعد ساعاتٍ تركوا المصور، لأن أقاربه أمنيون كما يشاع، وأبقوا على أبو إبراهيم الذي اعترف لاحقاً أنه افترى على الشاب. لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، ففي مثل هذه الحالات يسعى الأمنيون إلى تجنيد صاحب الإخبارية، بالمال أو بالتخويف. وقد نجح مسعاهم مع أبو إبراهيم، فقد اعتقلوا، بعد أيامٍ، جاره وجارته اللذين اعترفا بتهمة الزنا التي وجهت إليهما، وحولوهما إلى محكمة المدينة في قرية الشميطية، وبعد مدّةٍ رُجما أمام حديقة المشتل في شارع التكايا، ثم نقلت جثتاهما إلى مشفى فارمكس، وهناك اكتشفوا أن المرأة ما زالت على قيد الحياة، فأجهز عناصر التنظيم عليها.

تحول مشفى فارمكس إلى الإسعاف فقط، بعد أن نقلوا معداته إلى خارج المدينة، وصار يتقاضى أجور الإسعاف من المصابين والمراجعين. ظل الدكتور محمد يعمل في المشفى حتى شهرٍ من الآن، إذ بعد أن اعتقل الأمنيون عمه المسنّ بلغه أنه مات تحت التعذيب. فصار يردد، أمام المعارف والعاملين معه، أنه سيترك العمل في المشفى، الأمر الذي يلجأ إليه العاملون مع التنظيم لجسّ ردة الفعل قبل الإقدام. وصل الخبر إلى والي «ولاية الخير» (دير الزور)، الذي استدعاه وحضّه على الشكوى ضد الأمنيين والجلادين والواشي (محمود، أعطاه اسمه الكامل)، لكن الطبيب أصرّ على ترك العمل، وفوّض أحد أقربائه، من عناصر التنظيم، بمتابعة القضية. وتفيد الأخبار المتناقلة أن الدكتور ترك الشكوى بعد أن التقى بالمسؤول الأمنيّ، أبو علي حواجز الإدلبي، الذي قال له باقتضاب: «انتبه على حالك، سمعنا إنك رح تشتكي».

تحيط بمشفى فارمكس جمعياتٌ سكنية. وفي إحدى تلك الكتل، دائمة الاستهداف من سلاح النظام، يقطن عمر مع أولاده وزوجته، إلى جانب عددٍ من الأسر لا يتجاوز أصابع اليدين يتوزعون بين ستٍّ وتسعين شقة، يحفظون ما بقي من محتوياتها، في حدود الإمكان، ويعتمدون كثيراً عليها بعلم أصحابها، أو بدونه. كان عمر قد فك «مطور المي» الخاصّ بأحد بيوت الجيران النازحين، وركّبه مكان جهازه المعطل، فاعتقلته «الشرطة الإسلامية» بعد مدّةٍ وساقته إلى مقرّها خارج المدينة، حيث بقي ثلاثة أسابيع، عرف خلالها أن صديقه أبو إبراهيم العمال وشى به، فاعترف أن جميع الأغراض التي استعارها من الجيران سرقة، وغرّم بخمسة وأربعين ألف ليرة، بعد أن أتى به أبو عبد الله من الشرطة (مساعد أول سابق) إلى بيت الجيران وطلب منه تمثيل الجريمة! وهنا تدخل شابٌّ من الجوار وأخبرهم أن أصحاب الشقة تركوا مفتاحها معه، وأنه من أعطى عمر الأغراض، بعد إذن أصحابها. أخلت الشرطة سبيل عمر، بعد أن أخذت مفتاح الشقة والأغراض، وطلبت أن يرسلوا صاحبها إلى الشرطة حين عودته. يروي الشاب أنه، بعد رحيلهم، أخرج باكيته ليضيّف عمر، الذي اعتاد على ذلك لأنه لا يملك ثمن الدخان غالباً، فرفض التدخين رفضاً غريباً، وصار يصيح مبتل العينين «باقية باقية»، ثم سكت ليجهش «ذلوني...».

غير بعيدٍ عن بيت عمر، في الكتلة السكنية ذاتها، فتح أبو علي بقاليةً تحوي بعض الضروريات فقط، حين يتيسر له شراؤها. يجلس في البقالية أكثر الوقت ابنه علي، المهووس بالشعر، مع فتيةٍ من الجوار، يسمع المارّون أحاديثهم من مسافةٍ بعيدة. ورغم أن محمود الراصد، الذي يعيش في الكتلة السكنية المقابلة، استطاع أن يضبط إيقاع حياة السكان على مزاجه، لكن الفتية لم يكونوا يأبهون له كثيراً أو يأخذونه على محمل الجد، حتى وقتٍ قريب، حين كان علي منهمكاً في الحديث، وندّ منه بصوتٍ عالٍ «إن غداً لناظره قريب»، بالمصادفة مع مرور محمود على دراجته الهوائية، ومن يومها علي معتقلٌ لدى الأمنيين.