مأساة عائلةٍ سوريةٍ أعمقُ من الصورة الرمزية لطفلٍ ممدّدٍ على الشاطئ (1 من 2)

آن برنارد
نيويورك تايمز/ 27 كانون الأول 2015
ترجمة مأمون حلبي

عندما رمت الأمواج الجسد الصغير لآلان الكردي على أحد الشواطئ التركية، وأجبرت العالم أن يستوعب آلام اللاجئين السوريين، كان الطفل البالغ سنتين من العمر مجرّد فردٍ في عائلةٍ تحاول الفرار بعد أن فرّقتها سنوات الاضطرابات العاتية الخمس.

عندما رفع ضابطٌ تركيٌّ الطفل من بين الأمواج السطحية على حافة المتوسط كان ياسر، أحد أبناء عم آلان، وهو دون العشرين، وحيداً في حافلةٍ في المجر، بعد أن هرب من دمشق ليفلت من الخدمة الإلزامية. هو أيضاً خرج من تركيا على متن أحد قوارب المهرّبين. إحدى العمات كانت ترعى طفلاً مريضاً في إسطنبول، بينما كان ابنها وابنتها يعملان لوقتٍ طويلٍ في أحد المحلات كي يستطيعا تأمين معيشة العائلة، وكثيرٌ من الأقرباء الآخرين كانوا قد فرّوا من الحرب في سوريا أو كانوا يضعون خططاً لفرار. وبعد أن هزّت صورة آلان العالم بأسابيع فقط جهزت عمةٌ أخرى نفسها لتفعل ما وعدت نفسها بتجنبه: ركبت البحر مع أربعةٍ من أبنائها سالكةً الرحلة الخطيرة نفسها. تقول ابنتها، 15 عاماً: "نموت معاً أو نعيش معاً ونبني مستقبلاً لأنفسنا"، وتصل إلى نتيجةٍ –شأن مئات آلاف السوريين– مفادها أنه يستحيل العودة، وأن الطريق إلى الأمان يمرّ بمخاطر كبيرة.

كان آلان، الذي غرق معه أخوه وأمه، من عائلةٍ كبيرةٍ مشتتةٍ في أنحاء سوريا، تنتمي إلى الأقلية الكردية التي عانت من اضطهادٍ طويل الأمد. لكن، بالنسبة إلى معظم أقربائه، كانت تلك الهوية ثانويةً بالقياس إلى روح وأخلاقيات العاصمة دمشق التي نشأوا وكبروا فيها. فهم يكادون لا يتكلمون الكردية، ويعرفهم الآخرون بصفتهم سوريين، ولا ينتسبون إلى أيّ فصيل. لهذا، عندما اندلعت الحرب وأصبحت الروابط السياسية والطائفة والانتماء العرقيّ مسائل حياةٍ أو موت، كانوا وحدهم.

ولِد جدُّ آلان في كوباني، وهي منطقةٌ كرديةٌ في غالبيتها. بعد تأديته الخدمة الإلزامية انتقل إلى دمشق للبحث عن عملٍ واستقرّ في حيّ ركن الدين ذي الأغلبية الكردية. وهناك افتتح صالون حلاقةٍ وتزوج من امرأةٍ كرديةٍ كانت تعدّ نفسها دمشقيةً بالدرجة الأولى. بسرعةٍ توسع حيّ ركن الدين بسكنٍ غير منظمٍ وأزقةٍ ضيقةٍ تغصّ بعمالٍ ريفيين فقراء؛ مكانٌ سيندلع فيه التمرد لاحقاً. رُزق جدّ آلان بستة أولاد، معظمهم تركوا المدرسة بعد الصف التاسع ليتعلموا مهنة الحلاقة. يتذكر الأبناء أنهم كانوا يعيشون حياةً متواضعة، ودون أن يتأثروا بالتوترات بين الحكومة والأكراد. كانوا يقضون الصيف في كوباني لكنهم كانوا يعدّون أنفسهم من أبناء المدينة. فاطمة، الابنة الكبرى، كانت أول من هاجر. في عام 1992 رحلت إلى كندا. أثناء عملها الليليّ في منشأةٍ للطباعة استرعت انتباه إحدى رئيسات العمل الطيبات. "قالت لي رئيستي: "في كلّ ليلةٍ سأعلمكِ 10 كلماتٍ إنكليزية"، تتذكر فاطمة. "بقية ما أعرفه تعلمته من مشاهدة "بارني" مع ابني". أوصلت اللغة الإنكليزية فاطمة إلى شهادة مزينة شعر، وعملٍ في أرقى الصالونات والحصول على الجنسية؛ نجاحاتٌ جعلت رحلات العائلة اللاحقة ممكنة. فاطمة، التي كان لها حضورٌ قويٌّ، أصبحت بالنسبة إلى إخوتها وأخواتها مصدر نصحٍ ومعلوماتٍ، ومصدر نقودٍ في الحالات الطارئة. وعندما اندلعت الحرب أصبحت من أشدّ الداعمين لهم، وأمدّتهم بالخطط والوسائل للبحث عن اللجوء في الغرب. لكن، قبل الحرب، لم يكن بقية آل كردي يفكرون في مغادرة سوريا. فقد كانوا يمدّون جذورهم في تشكيلة الجماعات التي كانت تمنح سوريا ثراءها وغناها. كان لديهم أنسباء وأملاك في ضواحي دمشق وكوباني ومخيم اليرموك؛ وكلها أماكن سينهكها ويدمرها العنف بعد وقتٍ قصير.

في ربيع 2011 وصلت موجات النزاع الزاحفة إلى دمشق، عندما كان والد آلان سيرزق بطفلٍ من زوجته ريحانة، وهي ابنة عمٍّ له. عندما بدأت الاحتجاجات ضد حكومة بشار الأسد تنتشر عادت ريحانة إلى كوباني لتلد غالب، شقيق آلان الأكبر. بعض أفراد آل كردي تعاطفوا مع المظاهرات، التي كانت سلميةً في البداية، لكن أغلبيتهم تجنبوا الانخراط فيها. عمّمت الحكومة قمعها على كلّ أنحاء البلاد، وبسرعةٍ أصبح الحيّ تحت الضغط. قوات الأمن، القادرة دوماً على اعتقال الناس متى شاءت، أصبحت أكثر توتراً وأسرعوا بجعل الأكراد أو أيّ شخصٍ آخر، دون أن تكون له علاقاتٌ سياسية، كبش فداء.

يعود عبد الله بذاكرته إلى الوراء: "بعد أن بدأت الثورة خبِرتُ الفرق بيني وبين الآخرين؛ العنصرية. يستطيع أيّ شرطيٍّ بسيطٍ اتهامك. إن كتب أحدٌ ما تقريراً كاذباً ضدك قائلاً إن هذا الكرديّ فعل كذا وكذا فلن تعود أبداً". ذات يومٍ اقتحم بعض الضباط منزل بعض أنسباء آل كردي وأخذوا شقيقين لم تكن لهما توجهاتٌ سياسيةٌ معروفة، ومن حينها انقطعت أخبارهما. بعد ذلك شاهد شيركو، ابن عم آلان، صديقاً يموت بعد أن أصابه شرطيٌّ بطلقةٍ في رقبته بينما كان يتظاهر خارج المدرسة.

بدأت مدفعية النظام قصف ضواحي دمشق المتمرّدة، التي كان يجري فيها عصيانٌ مسلح، من قواعد في أعلى جبل قاسيون الواقع فوق منحدرات ركن الدين. كانت مدافع الجيش من القرب إلى درجة أن ضغط حركة الهواء تسبّب في تشقق جدار أحد بيوت العائلة. كان آل كردي أيضاً على الطرف الذي يتلقى القصف في ضواحي الغوطة الغربية، هناك كانت تعيش إحدى عمات آلان مع عائلتها. واندلعت اشتباكاتٌ في مخيم اليرموك، الذي كانت تسكن فيه عمةٌ أخرى مع زوجها الفلسطينيّ الذي جرح بسبب القصف. نزحت تلك العمتان مع عائلتيهما إلى ركن الدين، لكنهما بالكاد أحستا أنهما في وضعٍ أكثر أماناً. أتى الهروب إلى كوباني بعد أن شَهِدَ شيركو وابن عمٍّ آخر تفجيراً انتحارياً في الشارع: علق اللحم على أحد الجدران، واستقرّت شظايا في ساق أحد الفتيَين. في المشفى استجوبهما مسؤولون أمنيون، وكانا خائفيَن من أن يتكلما عما شاهداه. بدأت الشرطة السرية تطلب التحدث إلى رجال آل كردي. "دفعني هذا الأمر إلى القول: "فلنذهب. فلنغادر"، تتذكر غصون، والدة شيركو. "الرحيل أفضل من أن يتمّ أخذنا". بدت كوباني ملاذاً آمناً حينها لأن الأكراد هناك حاولوا إقامة منطقةٍ آمنةٍ تتمتع بشبه استقلالٍ ذاتيّ. لكن عبد الله تحسّر قائلاً: "لم أفكر بتلك الطريقة".

في البداية كانت المشكلات محض اقتصادية. كانت فرص العمل قليلةً في كوباني. ذهب عبد الله إلى إسطنبول ليعمل، في حين تهتم زوجته بتربية ابنهما غالب، وفيما بعد ولدت آلان. وكانت غصون، زوجة أخيه، تكسب النقود من جلب ملابس من دمشق وبيعها. تتذكر فيما بعد، وهي في شقتها الصغيرة في إسطنبول: "عانيت كثيراً لأني امرأةٌ أنيقةٌ جداً". برز تهديدٌ جديدٌ عندما أعلن تنظيم الدولة الإسلامية المتطرّف عن قيام دولة، وبدأ يلحق الأذى بالأكراد والأقليات الأخرى. أصبحت أسفار غصون خطِرة. لغتها العربية التي لا رطانة فيها ولباسها المحافظ أخفيا كونها كرديةً عند نقاط تفتيش "الدولة الإسلامية"، لكن جعلاها مشتبهاً بها عند الحواجز الكردية.

في أيلول 2014 كان تنظيم الدولة يقصف كوباني ففرّت العائلات نحو تركيا، وبعضها عَلِق بين مقاتلي تنظيم الدولة والسياج الحدوديّ. هناك أمسك مقاتلون ليسوا سوريين بزوج غصون. "ضربوه مراراً ببندقيةٍ أمامي. بعد ذلك أعطوا ابني شيركو، البالغ حينها 15 عاماً، بندقيةً وطلبوا منه أن يطلق النار على والده. واستمرّوا في القول إننا كفار. سقطتُ على الأرض وأنا أتوسل إليهم. ولسببٍ ما رحمونا". أمضت العائلة أياماً وهي تبحث عن معبر، مع مئاتٍ من الأكراد الآخرين. حاولوا أخيراً أن يخترقوا الحدود، فضرب رجال الشرطة التركية معظمهم وأعادوهم من حيث أتوا، غير أن امرأةً كرديةً على الجانب التركيّ خبّأت عائلة غصون في حظيرة أبقارها. هناك، في كوباني، كروم الزيتون التي يملكها آل كردي أُحرقت، وبيوتهم دمّرت، وقتل 18 شخصاً من أقربائهم. اتجه كثيرٌ من الناجين إلى إسطنبول، لتبدأ جولةٌ جديدةٌ من المحن.

استطاع عبد الله أن يرسل نقوداً من إسطنبول بالعمل والنوم في ورشةٍ لصنع الملابس. لكن العبء صار ثقيلاً عندما انضمّت إليه زوجته ومعها غالب وآلان. فالشقق التي يستطيع أن يدفع إيجارها كانت بعيدةً جداً عن مكان عمله، مما اضطرّه إلى أن يترك ورشة الملابس ويعمل في رفع أكياس الإسمنت التي يبلغ وزن الواحد منها قرابة 100 كغ مقابل 9 دولاراتٍ يومياً في عملٍ يدوم 12 ساعة. هيفرون، شقيقة عبد الله، كانت تعمل في تنظيف غرف الفنادق. غصون، زوجة أخيه محمد، كانت تغسل الصحون في أحد المطاعم، وابنها شيركو كان يعمل في محلّ ألبسةٍ بأجرٍ قليل. أمل الهجرة الشرعية إلى الغرب بدا بعيداً. في كندا حاولت فاطمة، عمة آلان، أن تساعد شقيقها محمد وزوجته وأولاده الخمسة في عملية اللجوء، لكن كندا كانت تطلب إثباتاً على أنهم لاجئون. تمنح تركيا السوريين وضعية الضيوف فقط، وهذا ما لم تكن كندا تقبله. تقدّمت هيفرون بطلبٍ لإعادة التوطين في ألمانيا. الصيف الماضي تلقت موعداً من أجل مقابلتها الأولى: 27 أيلول 2016.