لم تمنعني الإصابة...

الحرية...!!؟
سبقتكم إليها.
نعم، نلتُها عندما خرجتُ أوّل مرةٍ في صفوف الرافضين للظلم، المتحدّين الثائرين.

كان ذلك بعد استشهاد الشاب محمد ملا عيسى.. ذهبتُ إلى داره أشيّعه إلى جنّته، شأني شأن الكثيرين من أهالي دير الزور. وكان الشهيد ابن صديقتي... وقع الحدث جللٌ أثار في النفوس تحدّياً أكبر ضد هذا النظام الطاغية، الذي لا يميّز في بثّ حقده ودمويته بين طفلٍ وشيخٍ، ولا بين رجلٍ وامرأة.
أقسمتُ، مع الجماهير الغفيرة هناك، أن نكمل المشوار.. مشوار ثورتنا المباركة، حتى إسقاط هذا النظام.
علا صوتي يومها.. صرختُ بملء فمي، وكسرتُ كل الحواجز التي أقامها هذا البائس منذ عقودٍ طويلة.
كنت أطير في الجوّ كالطائر الحر.. لا خوف، لا وجل.. متمرّدةً مع المتمرّدين، ومندسّة في صفوف المندسّين... كما أسمانا النظام البائد.
تكرّر خروجي.. لم يفتني تشييع شهيدٍ ولا اعتصامٌ جماعيٌ.. ولا مظاهرةٌ للحرائر.
أهيئ لثامي.. وأرتب أعلامي وشعاراتي المكتوبة تحت عباءتي.. وأنطلق.
نتجمّع، نحن حرائر دير الزور، على اتفاقٍ مسبقٍ عند أحد مفترقات المدينة، ثم نسير معاً، نصرخ بأصوات جهورية عالية.
نردّد شعارات رفضنا واستنكارنا، وندعو الجميع إلى المشاركة.. يدعمنا أخوتنا الأحرار الثوار عن يميننا وعن شمالنا ومن خلفنا وأمامنا. نقطع الشوارع متكاتفين متضامنين حتى نصل إلى نقطة الاعتصام الأخيرة..
* * *
ترقّ ملامحها تارةً، وتقسو أخرى.
تلتمع عيناها بالفرح وهي تحدثني، ثم تنظر إلى البعيد..
ستشرق الشمس قريباً.. أقسم إنني أرى الصبح يتمايل هــــــنا.
* * *
أوشكُ أن أرتمي على قدميها... أمسح عليهما.. أهزّهما كي لا يخذلانها..
كرسيٌ متحركٌ تديره بيديها... ثم توقفه وتستدير ثانية إليّ، متابعةً ما انقطع من حديث.
حينما انقلبت ثورتنا من حراكٍ سلميٍ إلى مسلحٍ، شكّلتُ ورفيقات كفاحي ـ ولا زلتُ ـ فريقاً للدعم بكل أشكاله، نوصل المال والطعام إليهم هناك.. نقوم بتأمين المسعفين والدواء إن اقتضت الحاجة إلى ذلك..
ولم يوقفنا انكشاف أمرنا لدى النظام.. التحقيقات التي حاصرونا بها، المضايقات السمجة والسيئة التي نالتنا.
كنا أكثر تصميماً وثباتاً. أفرغوا المدينة من ساكنيها إلا نحن. أبَيتُ الخروج. يشدّ أزري والدي رحمه الله، وزوجي الذي يقاتل تحت راية جيشنا الحر اليوم (ليحمهم الله وينصرهم)... وعلى الرغم من استهدافي وأسرتي بقذائف متنوعة، واستشهاد أبي وطفلي، وإصابة قدميّ، إلا أنني مازلتُ أواصل ما بدأت، لأن طعم الحرية ألذّ.. لا يمكن أن يسلبوني إياها بعد اليوم.
على هذا الكرسيّ أنتقّل من ساحةٍ إلى أخرى.. لا يعطّلني شيء.. أصل الليل بالنهار راضيةً سعيدةً بما أحقّقه من نتائج على الأرض.
بيتي مقرٌ لعمــــــيات الثوار الدقيقة وتحضيراتهم العسكرية...
وأنا أبحث عن المتضرّرين منهم، ممن هم بحاجةٍ إلى الرعاية والعلاج، لأقدّم الدعم لهم ولأهليهم.
صندوق التبرعات الأهلية عامرٌ، فقد عملنا طويلاً لنستطيع الاستمرار في بذل الجهد حتى تحقيق النصر.
* * *
تضع يديها على دواليـــب الكرسي.. تديــــرها.. تنـــظر إليّ بعــــــزمٍ مبتــــــسمةً، ثم تستدير وتنطلق.
تقع عيني علـــــى المــــظروف المطويّ على زاوية الطاولة.
أمدّ يدي إليه.
أفتــــــــحه... رزمـــــتان مــــــن الأوراق النقدية ذات الألف ليرة.
أعيد إغلاقه، ثم أضمّه إلى كومة المظاريف في درج الطاولة، بعد أن أكتب اسمها على الظرف.
تفرّ دمعةٌ حارّةٌ من عيني، تختزل كل الأمل الذي أثاره حضورها هنا... وأتهيّأ للخروج.