نساء البصيرة: أطفالنا خارج المدارس، ونحن في قلب الكارثة

أطفال من البصيرة | عدسة بلال

ظاهرةٌ مخيفةٌ أفرزتها حالة الفوضى التعليمية في دير الزور وريفها، وهي وجود عددٍ كبيرٍ من الأطفال بعيداً عن المدرسة. لهذه الظاهرة تأثيرٌ كبيرٌ على الطفل السوريّ ومستقبله الدراسيّ. وهي، بالإضافة إلى ذلك، تفرز شكلاً من اشكال المعاناة تعيشه الأم أيضاً، مما يرتب عليها العديد من المسؤوليات الإضافية.

"ولـدي تحـــوّل من طالــبٍ إلى متـشرّد"

"أشعر أن ولدي، بعد عامين من الانقطاع عن الدراسة، تحوّل من طالبٍ في الابتدائية إلى متشرد". بهذه الكلمات لخّصت إحدى السيدات المقيمات في مدينة البصيرة معاناتها اليومية مع ابنها، الذي بلغ من العمر الثانية عشرة، بينما وصل في تحصيله الدراسي إلى الصف الرابع الابتدائي. "ولدي ينتظر الصباح كي يأتي، ليغادر المنزل ويعود بعد الظهيرة. في البداية كنت أعتقد أنه يذهب ليلعب مع رفاقه، وكان الأمر طبيعياً نوعاً ما، ثم تطوّر الأمر حين بدأت أعثر في جيبه على بعض النقود. عرفت أنه يبيع البسكويت في كراج البصيرة. وعرفت أن هذه المهنة باتت مهنةً لعشراتٍ من أبناء المدينة، الذين باتوا يمارسون عادةً تشبه التسوّل أمام السرافيس في الكراج بحجة بيع السكاكر والبسكويت. ولدي لا يحتاج إلى هذه المهنة أبداً، لكنّ الفراغ الذي يعيشه دفعه إلى تقليد هؤلاء الفتية. حاولت قدر الإمكان مساعدته على مواصلة تعليمه في المنزل. نجحت إلى حدٍّ ما ولكنني استنتجت أنه بالرغم من سوء النظام التعليميّ في سوريا قبل الثورة، إلا أن المدرسة لم تكن فقط مكاناً لتلقي العلم، بل كانت أيضاً مكاناً لتعلم الانضباط والنظام. وفي الجوّ الذي كان يعيشه الطفل فيها كان يتحقق له بعض التفريغ النفسي. هذا كله فقده أطفالنا دفعةً واحدة، مما أدّى إلى العديد من المشاكل النفسية التي، وبحكم طبيعة مجتمعنا، تقع تبعاتها على الأم، فهي التي تكون على تماسٍّ مباشرٍ مع الأبناء أكثر من ربّ الأسرة".
السيدة نور علاوي، من أبناء البصيرة، تحدثت عن أبرز ما تعانيه بسبب انقطاع ابنها عن الذهاب إلى المدرسة، فقالت: لديّ ثلاثة أطفال في سنّ الدراسة. بالنسبة إلى من هم في المرحلة الدنيا، أي صفوف الأول والثاني والثالث، لا توجد مشاكل أعاني منها، لأنه لا تصعب عليّ السيطرة عليهم باختصار. المشكلة تأتي مع الأطفال في الحلقة الثانية من المرحلة الابتدائية، أي سنّ العشر سنوات وما بعدها. ليست لديّ، ولا لدى مثيلاتي، أيّة وسيلةٍ يمكن أن تساعدنا في تلافي الآثار النفسية التي تترتب على ذلك. إننا نقف عاجزاتٍ أمام ضياع أبنائنا، وليس ضياع مستقبلهم الدراسي فقط. ولدي الأكبر أصبح شرساً بصورةٍ لا تطاق، ولا تمكنني معالجتها. وهذا الحال ينطبق على العديد من الأمهات اللواتي يعشن هذه المعاناة ولكن بصورٍ وأشكالٍ مختلفة، بحسب الظرف الاجتماعيّ والاقتصاديّ الذي يعشنه، وبحسب أعمار أبنائهنّ. هذا غير ما يمكن لوقت الفراغ من أن يجرّ إليه أبناءنا من سلوكياتٍ وعاداتٍ سيئة، ولعلّ أقلها التدخين. فقد ارتفعت نسبة الأطفال المدخنين بشكلٍ لا يوصف في البصيرة، مما يرتّب علينا مسؤولية مراقبة أبنائنا ليل نهار. أشعر أحياناً أن أيّة ساعة غيابٍ لابني خارج المنزل يمكن أن تشكل كارثةً ما، لكثرة الأولاد الذين يتجوّلون في الشوارع بلا هدى. لم أكن أتخيل يوماً أن المدرسة تلعب هذا الدور في حياتنا. يوماً بعد يوم يزداد عدد الأطفال الذين يمتهنون مهناً بسيطة، كبيع البسكويت والمحروقات وحتى مسح الأحذية. وليس الدافع هو الوضع الاقتصادي دائماً، وإنما الفراغ القاتل الذي يعيشونه. لا تتوقف الكارثة على انقطاعهم عن التعليم وضياع عامين دراسيين حتى الآن، بل تكمن في صعوبة العودة إلى الدراسة يوماً ما. ونحن نناشد الجهات التي تعنى بهذه القضية أن تعمل على حلها، أو على التخفيف منها على الأقلّ.