Kazimir Malevich

"أجونا مستأجرين جدد..."، اعتدت فهم مقصد عبارة أمي التي تقولها بتهكم أثناء مكالمة مرئية، فألحظ منها ابتسامة ساخرة تجيبني عن جغرافية "المستأجرين الجدد" التي لم تنطقها أمي "ابنة المدينة" كما ترى نفسها.

"عمارة النسوان" كان هذا الاسم البديل للسكن الذي كنت أقطن وعائلتي فيه، إذ أن جلّ أسماء المنازل قد سُجلت بأسماء نسوة أصحاب البيوت. قبيل الثورة كن يتفاخرن بالمصيبة، لا يمضي العام على "عمارة النسوان" إلا وقد سُرق منزل أحد جيراننا "الزناگيل" أو نُشلت سيارته؛ ولأجل الصدفة الكاذبة، فأن محاضر الشكاوى كانت تُسجل "ضد مجهول"، وشاءت الصدفة الكاذبة عينها أن يكون السارق قاطناً في حي تشرين أو عش الورور، ذات الأغلبية العلوية، يدّعي بخلل أصاب عقله فينتهي المحضر "بأرضه".

"تتذكري مطرح ما عملوا عراضة لبنت جارنا المدير يوم عرسها؟ أي هون صارت موقف السوزوكيات!" تشرح أمي عن "المستأجرين الجدد" بتفصيل لا يخلو من طبقية مناطقية كان المجتمع السوري -قبيل الثورة وإلى الآن- يعايشها، وهي لا تزال ترى في مسكننا "عز"، حسب قولها، متجاهلة أكياس الرمل المتموضعة منذ أن أعلن النظام "عمارة النسوان" خط عسكري يفصله عن الجيش الحر في برزة عام 2013؛ مفضّلاً أن يحمي الوطن "آكل شارب نايم" في مساكن "لو صحت لجده ما كان مات".

"بس نحن نازحين أكابر"، تدافع جارتي أم مازن الخمسينية القاطنة "مؤقتاً"، مشددة على كلمة مؤقتاً، في حي المهاجرين بدمشق- ما إن حاولتُ تذكيرها بأننا نزحنا ثلاث مرات خلال عامين، وأن الثورة ألغت فروقاً طبقية، فأضحت مساكننا على الأرض سواء، "أو ربما تحت الأرض"؛ لكنها، وهي "زوجة سفير سابق"، تصرّ على فرزنا في خانة "النازحين" المخملية، وتعيد جيراننا الجدد إلى قراهم، التي علمت باسمها في الأمس عبر نشرات الأخبار كسائر السوريين، الذين اطلعوا على جغرافية البلاد تتبعاً لأخبار القصف والاعتقال.

"حق الفلاح" كلمة مشتركة جمعت والدتي مع جاراتها، اللاتي كنّ في الأمس صاحبات أراضٍ في الريف السوري، حسب محافظة كل منهن، يُصنفن في نظر "حزب البعث" ضمن فئة الإقطاعيين؛ فكان أكرم الحوراني، الذي أسس مع صلاح البيطار وميشيل عفلق في 1952 حزب البعث العربي الاشتراكي، معلناً ثورة الفلاح، "يشرعن قانون الإصلاح الزراعي لسرقة ممتلكاتنا فينسبها للفلاح!".

حتى غدا بعض أهالي حماة يؤرخ باغضاً جملة الحوراني الشهيرة، بأن لن يهدأ له بال حتى يرى الرتب العسكرية على أكتاف الفلاحين، فيشيرون بأصابع البلاء الذي حلّ بسوريا إلى سياسة الحوراني، حتى وصل حافظ الأسد.

"عم يتملكوا أراضي وشقق بالشريعة"، والتي تصنف ضمن أغلى مناطق السكن في حماة، حتى أصبحت حكراً على وجهاء المدينة دون الأقل منهم وجاهة؛ لكن القصف المستمر على الريف الحموي، وتكرار تقدم الجيش الحر إلى عتبات المدينة دون دخولها، جعلها وجهة لقرابة مليون ونصف نازح حتى عام 2017، فغدا بعض أهالي المدينة يدقق في مسقط رأس النازح الحموي، "ليعرف قرعة أبوه من وين"، وعلى إثرها تُقرَّر أجرة المنزل، حتى بات البعض يطالع عن كثب ثروات النازحين إلى حماة وسويتهم المعيشية، بقدر أن البعض وصل إلى حساب الدخل الشهري للعائلة النازحة بعد مراقبة "الجار الجديد".

وحسب منظمة الفاو العالمية، فأن الريف الدمشقي قد خسر نحو مليون نازح سوري، ليتقدم الريف الحلبي بخسارته المقدرة بأكثر من 1,5 مليون نسمة خلال الثورة، تليها الحسكة والرقة بنزوح ما يقارب 500 ألف سوري، ثم ريف حمص بـ 250 ألف، ودير الزور التي خسرت ما يفوق 200 ألف نسمة؛ في حين كانت إدلب على المقلب الآخر من كفة النزوح، فكانت مضيافاً تستقبل الوافدين من "مصالحات" لم يتصالح فيها أهل الأرض مع النظام، فتوجه قرابة 50 ألف مقاتل من الجيش الحر مع ذويهم  إلى إدلب، حسب دراسة نشرها موقع عربي برس.