في حيّ الوعر..
حيث يطلق كنان النار على الأهالي كلما غضب

لا يريد أبو إياد (70 عاماً) مغادرة بيته في حيّ الوعر الحمصيّ المحاصر، رغم الجوع والمرض والخوف، فهو يخشى «ذل النزوح والبهدلة ببيوت الناس»، ويأمل في أن يحفظ «كرامة آخر هالعمر»، ولقد قرر «رح موت ببيتي، ما ضل شي يستاهل أهرب فيه من القصف ومن الموت».

كان أبو إياد من أوائل سكان حيّ الوعر الجديد في ثمانينات القرن الماضي. مكّنه حسن اقتصادٍ من دفع أقساط هذا البيت في جمعيةٍ سكنية شكلت -مع جمعياتٍ سكنيةٍ أخرى- حيّ الوعر الجديد، المنبثق عن القديم الناشئ في الستينات عبر جمعيةٍ سكنيةٍ للمعلمين وأخرى للقضاة شكلتا حينها قوام الحيّ الذي اختاره أبناء الطبقة الوسطى المتعلمون من سنّة المدينة ونسبة من مسيحييها سكناً لهم. ولم تتغير هذه التركيبة خلال العقود اللاحقة مع هجرات الريف العلويّ التي اختارت توسعاتٍ عشوائيةٍ وشبه عشوائيةٍ بعيدةٍ عن الوعر، في أحياء عكرمة والنزهة والزهراء وغيرها، «مستوطناتٍ» لها. خلال الثورة اضطرب المشهد السكانيّ في الوعر بفعل موجات النزوح المتتالية إليه في كلّ مرّةٍ تجتاح قوات الأسد الأحياء الثائرة، ليصل عدد ساكنيه إلى (400) ألفٍ أول العام 2013. قبل أن يصير الحيّ الآمن هدفاً عسكرياً لتلك القوات، لتنعكس وجهة النزوح وينخفض العدد بالتدريج إلى نحو (50) ألفاً اليوم. يفسر أبو اياد عدم اقتحام قوات الأسد الوعر بأنهم أشبعوا غرائز «حيونتهم قبل؛ بالخالدية وبابا عمر والبياضة ودير بعلبة. ما صفيان إلا الوعر، وإيمتى ما رجعو جنّو رح يفوتوه».

على عكس زوجها الذي اعتاد على أصوات الانفجارات والقذائف، ما زالت أم إياد تفزع مع كل رشقة (شيلكا) من المشفى الوطني حيث تتمركز قوات الأسد، أو من قرية المزرعة وبساتينها حيث تنتشر قوات الرضا. ومن سكان هذه القرية الشيعة وسكان شقيقتها الحيدرية تخاف أم إياد أكثر مما تخاف من أيّ جماعاتٍ أخرى، لأنهم «يخططون لطرد السنة والاستيطان مكانهم» حسب شائعاتٍ يتداولها أهل الوعر كخطةٍ مؤكدةٍ أعدّها حزب الله «ليؤمّن طريقه من حدود لبنان إلى قلب حمص». وعلى وقع هذه الشائعات يحتار أبو فهد في انتقاء مخبأٍ محصّنٍ ضد الحريق أثناء القصف، يخبّئ فيه أوراق ملكية بيته المهدد من «الشيعة؛ سوريين من هون، وعراقيين ولبنانيين ومن أفغانستان»، حسب ما يعدد المخاطر متعددة الجنسيات.

أسهم الموقع الجغرافيّ للحيّ في تشديد الحصار عليه، إذ يقلص انقطاعه عن المدينة بأكثر من (4) كم من جهة الشرق، ووقوع الكلية الحربية في شماله، ثم كتيبة المدفعية وقريتي المزرعة والحيدرية من الغرب والجنوب، من إمكانيات تهريب الأغذية، وجعلها رهينةً برغبات العناصر على حاجز الفرن شمالاً، حيث الممرّ الوحيد الذي تسمح به قوات الأسد للموظفين وطلاب الجامعات بالخروج والعودة، بشرط ألا يتجاوز وزن ما يحمله العائد من خضرواتٍ الكيلو غرام الواحد، ويمنع إدخال أي مادةٍ غذائيةٍ قابلةٍ للتخزين. وشكلت ثلاث شحناتٍ من مساعدات الأمم المتحدة، المصدر الغذائيّ الرئيس لمعظم السكان. ومن الطحين والعدس والفاصولياء الجافة في هذه الشحنات نشأت سوق مقايضةٍ مقابل مواد أخرى ينجح بعض الباعة في تسريبها إلى الحيّ. يقول محمد، وهو ناشطٌ مطلوبٌ لقوات الأسد، إن (30-20) كيلو غرام من الفاصولياء الجافة تقايض بـ«فروجة أو ببطارية 7 أمبير أو 100 غرام دخان لف. لكن مهما جمع الواحد فاصوليا أكيد راح تخلص». ليلجأ إلى التقشف الشديد أو اختراع البدائل، مثل توليد الكهرباء بالدراجات الهوائية وفق النواتج التالية «ساعة حركة بالبسكليت تشحن الموبايل 60 بالمية، وساعة ونص تشغل ضوّ صغير تلات ساعات».

ومن بين جنود وضباط جيش الأسد، و«شبّيحة» دفاعه الوطني، وقوات الرضا، المحاصرين للوعر؛ يميز الناس اثنين فقط، هما القائدان المتناوبان لحاجز الفرن، كنان وأبو خلدون. وينقل المارّون عبر هذا الحاجز تحديثاتٍ يوميةً بآخر أفعالهما: «كنان اليوم معصّب ما خلى الخيار يفوت، وفعس كياس البندورة»، أو «أبو خلدون الحيوان بزق على ستّ مقدّرة وقال لها: انقلعي وليه ارجعي، آفي طلعة». ويبدو أن كنان المتحدّر من حيّ الزهراء أسرع غضباً من أبو خلدون ابن ريف طرطوس وأشد رعونة، ففي واحدةٍ من جرائمه المزاجية الشهيرة سمح كنان، على غير عادته، لعشرات الرجال والنسوة من كبار السنّ بشراء الخبز من الفرن الملاصق لحاجزه، وعند اقترابهم غضب فجأةً وأخذ يطلق النار، ليردي ثلاثة رجالٍ وامرأةً ويصيب أكثر من عشرةٍ بجروح.

يحسب أهل الوعر لعناصر قوات الرضا حسنةً واحدة، هي قتلهم أو إصابتهم كنان في اشتباكٍ جانبيٍّ بين الطرفين، خلّص الناس من شروره، ولو إلى حين.