في الجورة والقصور يفتتح المحامون مكاتبهم في دكاكين وتعمل ربّات المنازل إلى جانب أزواجهنّ في مطاعم من واجهات البيوت

من حي الجورة - صفحة "ملتيميديا الجورة والقصور" على الفيسبوك

كلّ مترٍ مربعٍ في حيّي الجورة والقصور، الخاضعين لسيطرة النظام بمدينة دير الزور، يستفاد منه باستثمارٍ ما من السكان الذين تضاعف عددهم مرّاتٍ عدّةً منذ عامين ونصف إلى الآن.

لا توجد إحصائياتٌ عن عدد المقيمين اليوم في الجورة والقصور، لكن تقديراتٍ غير دقيقةٍ تشير إلى رقم 250 ألف نسمة. ويكشف التجوّل في شوارعهما الرئيسية والفرعية عن الازدحام الهائل الذي يعيشه هذان الحيّان اللذان استوعبا جزءاً لا بأس به من النشاط الخدميّ والمهنيّ والتجاريّ لمدينة دير الزور، الذي نقله النازحون إليهما، إضافةً إلى تركّز العمل الحكوميّ الرسميّ فيهما، وكذلك تحوّلهما إلى مركز خدماتٍ لوجستيةٍ لقوّات الأسد التي تقاتل في الجبهات القريبة وفي جبهة المطار العسكريّ. ويصف بعض أصحاب المهن المنتقلين إلى الجورة والقصور ظروف العمل فيهما بأنها غريبةٌ وصعبةٌ وغير متوازنة، كما يشرح أحدهم لـ"عين المدينة": "نحن نشتغل بمثل الجزيرة المقطوعة. وكل يوم بي تغيّر جديد. وشغلنا متقطّع وما بي أيّ توفير أو أرباح، بس شي يا دوب يمشّي الحال. كلّ الناس هون عايشة عالرواتب، وهي مصدر السيولة الوحيد". يصعب تحديد العدد التقريبيّ لعدد من يحصلون على رواتب شهريةٍ من النظام، لكن يمكن تصنيفهم في فئتين؛ الأولى هي فئة الموظفين الحكوميين الذين تحتشد بهم الأبنية الرسمية المفتتحة على عجل، ويرجّح البعض أن أعداد هؤلاء تفوق 10 آلاف موظف. والفئة الثانية هي فئة العاملين في سلك القوّات الأسدية وملحقاتها، وعلى وجه الخصوص المتطوّعين في ما يسمى بـ"الدفاع الوطنيّ"، الذين تتراوح أعدادهم -بحسب تقديراتٍ- بين 500 إلى 1000 متطوّعٍ من أبناء محافظة دير الزور من الريف والمدينة. يضاف إليهم المخبرون أو الجواسيس والأشخاص الآخرون الذين يقدّمون خدماتٍ أمنيةً لأجهزة مخابرات النظام. والتحق بكلّ هؤلاء مؤخراً العشرات من أبناء عشيرة الشعيطات الهاربين من تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، والمنضوين في تشكيلٍ خاصٍّ يقاتل إلى جانب قوّات الأسد، بعد تخرّجهم في معسكر تدريبٍ في مدينة تدمر.

تحايلٌ لأجل العيش

يتحدّث معظم السكان بأن مبلغ 50 ألف ليرةٍ في الشهر -250 دولاراً- هو الحدّ الأدنى الذي يضمن الكفاف لعائلةٍ مؤلفةٍ من خمسة أشخاص. وهو مبلغٌ كبيرٌ بالمقارنة مع متوسط أجور الموظفين، الذي لا يتجاوز 20 ألف ليرةٍ شهرياً في أفضل الأحوال. مما دفع بمعظم السكان إلى البحث عن فرص عملٍ إضافيةٍ في حيّزٍ جغرافيٍّ ضيقٍ لا يتجاوز 3.5 كم2 تقريباً، هي مساحة الحيّين. لتتحوّل بذلك كثيرٌ من الحدائق المنزلية وغرف الواجهة في البيوت، وكذلك الأرصفة، إلى مطاعم ودكاكين خضارٍ وصالونات حلاقةٍ ومتاجر ألبسةٍ مستعملةٍ وغير ذلك من الأعمال التي امتهنها الكثيرون من غير علاقةٍ سابقةٍ بها. فيما وجد أصحاب المهن الرفيعة، من الأطباء والصيادلة والمحامين النازحين إلى الجورة والقصور، صعوبةً كبيرةً في العثور على عياداتٍ أو مكاتب، فحوّل بعض الأطباء غرفاً في منازل نزوحهم المستأجرة إلى عيادات، وافتتح محامون مكاتب لهم في تشكيلاتٍ بيتونيةٍ في الحدائق هي أقرب إلى الدكاكين. وعلى زوايا كلّ شارعٍ تنتشر "بسطات" بيع المفرّق للمشتقات النفطية المكرّرة بطرقٍ بدائية، في حين امتهن آخرون تجارةً جملتُها من الريف الخارج عن سيطرة النظام، يتمّ إدخالها بتسهيلاتٍ من الحواجز الأمنية والعسكرية.
تقول السيدة (م)، التي تعاون زوجها في مطعمٍ للفلافل افتتحته العائلة في غرفةٍ تطلّ على الشارع، إنها سدّت العجز بين الوارد والمصروف بهذا المطعم. وتقول ربة منزلٍ أخرى إنها لا تشعر بالحرج من وقوفها في دكان المواد الغذائية المفتتح بحديقة منزلها. كما لا تشعر الفتيات الشابات العاملات في هذه المشاريع العائلية الصغيرة بالحرج أيضاً، رغم وجودهنّ في الشارع نصف النهار تقريباً: "كأنه نشتغل بالشارع، ونتعامل مع مين ما كان"، تقول إحدى الفتيات واصفةً عملها الذي صار شيئاً مألوفاً في هذا الجوّ الذي يكافح فيه الجميع كي لا يتحوّلوا إلى متسوّلين. وتفسّر معلمة مدرسةٍ ظاهرة انضمام ربات المنازل و"بنات البيوت" -بحسب تعبيرها- إلى سوق العمل بهجرة الشباب إلى خارج مناطق سيطرة النظام، هرباً من الخدمة في قوّاته، وبحثاً عن فرص العمل والدراسة خارج البلاد.