في "السرفيس" إلى تركيا

عبور الحدود التركية تهريباً

من مدينة الميادين، تنطلق بنا الحافلة الصغيرة "السرفيس" فجراً، وغايتنا الحدود التركية. كان السائق مرحاً وهو ينبّهنا إلى ضرورة التخلص عن كلّ ما يمتّ إلى عادة التدخين بصلة، وأن نقلل من "الأخذ والعطاء" مع عناصر "الدولة"
على الحواجز.

"إذا وصّــلنا الظهـر، يقــدرون المهربين يعدّونا فوراً؟"، سأل راكبٌ في الأربعين السائق الذي طالبه أن ندعو الله أن نصل سالمين فقط، ثم يفكّر بعد ذلك بالحدود. استجاب الراكب مدمدماً بدعاءٍ سريعٍ وهو يلتفت إلى زوجته وابنتيه في المقعد الخلفي. وبعد الحاجز الأول عند جسر الميادين، الذي اكتفى أحد عناصره بفتح الباب والسلام علينا، ثم إغلاقه مع الدعاء بالتوفيق؛ عرّف الرجل في جواري عن نفسه بأنه محاميّ، وأنه نازحٌ إلى تركيا مع عائلته. وكرّر السؤال عن المدّة التي يتطلبها "العبور"، فأجبته بأن ذلك يتوقف على الظروف. لكن شاباً يجلس أمامنا تدخّل في الحديث مقدّماً لائحةً بالخيارات الممكنة في طريقة وزمن "التهريب" لكلّ شخصٍ ليس لديه جواز سفر، أو انتهت صلاحية جوازه، وهذا حال المحامي الذي عبّر عن ندمه لأنه تراخى في مسألة تجديد الجوازات. وتساءل متوجهاً إلى السائق إن كانت توجد أيّة طريقةٍ للعبور بشكلٍ محترمٍ عبر البوابة، مما أثار غضب السائق الذي طالبه بأن "يصلّي على النبي، ويقلل من هذه الأسئلة في هذا الصباح". همست المرأة لزوجها بأن يهدأ قليلاً. وهو طلبٌ في محلّه من هذا الرجل الذي وقع، منذ تحرّكت السيارة، في أخطاء عدّةٍ يجب على المسافرين أن لا يقعوا فيها، بحسب التقاليد الجديدة التي تشكلت مع سيطرة التنظيم على دير الزور. فقد باح لي، وهو لا يعرفني من قبلُ ودون مبرّرٍ، بمهنته التي تعدّ محرّمة. وتعجّل بالسؤال عن أمرٍ لا يجب على مسافرين في رحلةٍ قد تكون خطرةً التفكير فيه. وبدا باحثاً عن الترف باستفساره عن "طريقةٍ محترمةٍ" للعبور في هذه الظروف التي لم يبقَ فيها شيءٌ على حاله. لكن خرق تقاليد السفر هذا، وبأسلوب المحاميّ، يحدث في كلّ رحلةٍ تقريباً، إذ يميل الناس إلى التعارف دون هدفٍ سوى تقطيع الوقت. وينفع الحظ وحده في نجاة الكثيرين من براثن الاعتقال بسبب أخطاء لا يكفّون عن ارتكابها، وخاصةً أثناء مرورهم بحواجز تنظيم "الدولة" في ريف حلب، التي علق خلالها كثيرٌ من أبناء دير الزور المسافرين إلى تركيا، حيث تخضع الحقائب والجوّالات والأجسام في بعض الحالات لتفتيشٍ دقيق.
"حواجز حلـب" هي فــقط التي تخيف الراكب الشابّ من بين حواجز "الدولة" كلها: "يعني مثلاً أنا حلاق، وشايل عدّتي معاي، وطالع أترزّق الله بأورفا. يجوز هالعدّة هاي توقّفني عندهم كذا يوم". "أنت حلاق!"، استنكر المحاميّ مهنة الشاب الذي بدا بالفعل أخشن من أن يكون حلاقاً، لكنه فسّر ذلك بأنه ترك المهنة منذ شهرين تقريباً، وأهمل نفسه هكذا بعد أن تعرّض للاعتقال، بحسب ما روى حكايته التي بدأت بصفعه لأجيره لأنه يترك العمل بلا إذنٍ و"يصيع" لساعاتٍ في الشوارع، مما دفع الأجير إلى الوشاية بمعلّمه للحسبة، بتهمتَي "حنجرة" ذقون الزبائن، والسخرية من قوانين الدولة الخاصّة بالحلاقين. إضافةً إلى صفع الأجير الذي كان في درسٍ دينيٍّ، واعتبار الدروس "صياعة". شدّت القصة الركاب والسائق أيضاً، الذي بدا مصغياً لمجريات التحقيق حين اتسعت لائحة التهم الموجّهة إلى الحلاق. "قلت له، أقسم بالله من دخلت الدولة عالمحافظة ما حفّيت حواجب زبون، وما بي زبون يستجري يحفّ حواجبه أصلاً، أو حتى يحنجر دقنه. وأنه كل شغلي هو قصّ شعر الراس وتعديل اللحية بالمقصّ. وما أعرف ليش صدّقو أجيري المهبول وكذّبوني، وما عندهم ولا دليل ضدي".
على الحاجز الأخير في الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم "الدولة"، قبل أن ندخل مناطق الجيش الحرّ في ريف حلب، سئل الحلاق عن الحقيبة، وعن التزامه السابق بمحرّمات الحلاقة، وسئل المحامي عن مهنته فأجاب بأنه موظفٌ حكوميٌّ مفصولٌ من عمله. ونزلنا لتأدية صلاة الظهر، قبل أن ننطلق مرّةً أخرى، على وقع أغنيةٍ مسجّلةٍ من حفلة عرسٍ، شغّلها السائق وهو يخرج علبة تبغٍ ويضيّفنا بإلحاح. كشفت زوجة المحامي وابنتاه عن وجوههنّ. واقتربنا من الحدود.