فلاحو الساحل.. غرق جماعي بالمياه و بالوعود و بالحمضيات

ليست مشكلة فلاح الساحل السوري اليوم تكرار أزمة تصريف الحمضيات التي واجهته في العام الماضي، فأغلب الفلاحين أدركوا أن دور المؤسسات الرسمية في إخراجهم من هذه الأزمة شبه معدوم، وأن الجهود التي تبذلها الجهات الرسمية الزراعية في الساحل لشراء محصول الحمضيات وعدم تعرضه للتلف هي جهود مبذولة أمام الكاميرات لعدة دقائق لا أكثر.. لكن مشكلته الحالية مختلفة.

مشكلته الحقيقية اليوم هي الغرق، الغرق الحقيقي لا الافتراضي- الغرق الذي يحتاج فيه بالفعل إلى "يد الدولة" التي تستطيع انتشاله منه، لكنه لم يجدها هذه المرة أيضاً، في حين أدت العواصف المطرية المتلاحقة إلى نتائج كارثية بالنسبة إلى فلاحي محافظتي طرطوس واللاذقية، فمن انجراف التربة في مئات القرى والمناطق الزراعية، إلى فيضانات المسطحات المائية والسدود، وإلى دمار البيوت البلاستيكية، وبالتالي دمار المحصول.

في مشقيتا القرية المعروفة بوجود سد 16 تشرين فيها، يبدو أن الفلاحين باتوا مهددين بترك منازلهم وليس فقط أراضيهم، وذلك بسبب ارتفاع منسوب المياه في البحيرة المتشكلة من المياه المحجوزة خلف السد، واضطرار القائمين عليه إلى فتح أحد المنافذ لتصريف المياه التي ستغمر مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية والمنازل، وهو ما يبدو قريباً جداً مع استمرار العواصف المطرية، وعدم القدرة على تصريف مياه البحيرة حتى الآن.

في القرى الأخرى من ريف اللاذقية وجبلة وبانياس وطرطوس أدت العواصف المطرية والرياح إلى اقتلاع البيوت البلاستيكية ودمارها، وبالتالي دمار المزروعات فيها، إضافة إلى تلف وسقوط ثمار الحمضيات وغيرها عن الأشجار. فيما كانت مشكلة الفلاحين أصحاب الأراضي الواقعة في المدرجات الجبلية هي السيول الجارفة التي دمرت الأراضي والمحاصيل وجرفت التربة، ما جعل حالة يأس عام تسيطر على الفلاحين الذين ينتظرون نضوج مواسمهم التي من المفترض أنها تموّل كل -أو جزءاً- من متطلبات حياتهم اليومية.

كغيره من مواطني الساحل السوري، تبدو علاقة الفلاح بالمؤسسة الرسمية الخاصة به (اتحادات فلاحية، مؤسسات رسمية تابعة لوزارة الزراعة، مؤسسات ري، إكثار بذار...) علاقة سيئة للغاية، إلا أنه -وكغيره من مواطني الساحل- يعاني من عدم قدرته على رؤية تلك المؤسسة بصورتها الكلية الخاضعة لنظام سياسي كامل مركزه دمشق، نظام لا يرى لهذا الفلاح وجود على الخارطة أصلاً.

بمعنى أن الفلاح في الساحل يحقد على المؤسسة الفلاحية الرسمية، كونها دائماً ما تعده ولا تفي بالوعود، كما أنها تتركه بمفرده عرضة للفيضانات وانجرافات التربة وتلف المحصول دون أية مساعدة، لذا تجد هذا الفلاح يصب جام غضبه على تلك المؤسسات، سواء من خلال الإعلام أو في حياته اليومية، إلا أنه يفصل هذه المؤسسة عن سياقها الأساسي المرتبط بنظام الأسد، وبعد أن يشتم كل مكونات المؤسسة الزراعية يوجه شكره للأسد ويتمنى النصر لجيشه.

حاله كحال بقية مكونات المجتمع في الساحل القادرة على الفصل الدائم بين أي مؤسسة فرعية وبين حكومة النظام، فمجلس المحافظة يمثل نفسه، ومؤسسة التأمينات تمثل نفسها، البنك العقاري والتجاري، البلدية، المالية، ومؤسسة الكهرباء والمياه، كلها تمثل نفسها فقط، لا أحد يمثل النظام، ولا حتى الميليشيات المسلحة التي يمكن أن تسرق موسم هذا الفلاح نهاراً أمام أعين الناس.. كلهم عرضة لكره المواطن وحقده ومطالبته بالتغيير، لكن بعيداً عن الرأس المكون والحاكم لكل هذه المؤسسات.

قبل أن يمنّى الفلاح في الساحل السوري بالفيضانات الحالية، كان قد مَنَي بأزمة تصريف ثماره خلال عدة أعوام مضت، ومَنَي برفع أسعار السماد قبلها، وقبل هذا وذاك مَنَي بسحب أبنائه إلى الجيش وعودة نسبة كبيرة منهم قتلى إلى قراهم، فما هو الحدث الحقيقي الذي يمكن أن يصيب هذا الفلاح ويؤدي إلى تحريك معوله باتجاه مصدر كل أزماته.. إنه فلاح يعشق الأرض قبل شيء، يتسم بقدرته على التحليل المنطقي الذي يقول "من يزرع يحصد"، لكن ألا يرى هذا الفلاح نفسه اليوم كيف يحصد ما زرعه سواه؟