عن المكتبات والكتب الورقية في دمشق.. فصل من التاريخ الثقافي داسته أحذية العساكر

من الإنترنت لأحدى مكتبات الرصيف في دمشق

في اليوم العالمي للكتاب أتذكر أن معظم المكتبات التي عرفتها تعرضت لواحدة من الفواجع التي أصابت المجتمع السوري الثائر والمعارض، دعس عليها وحرقها شبيحة النظام السوري، وأحياناً بالوا على محتوياتها في لحظات سكر تتلو دخولهم مدن المعارضين بعد سنوات من القتال. لدي تجارب عديدة عن مكتبات داريا مدينتي التي كانت عامرة بآلاف الكتب، وذهبت في خضم ركام المدينة التي نالت أكثر من 7 آلاف برميل متفجر خلال سنوات القتال.

مكتبات منزلية

أستعرض شريط فيديو لمنزلنا في داريا المدمرة، أقلب الشريط على عجل لأصل إلى غرفة المكتبة: غرفة كالحة السواد فارغة تماماً من كل مكوناتها التي عشت بينها زهاء 20 سنة. رجال يتسربلون بالكراهية لكل ممتع في الحياة أحرقوها مع ذكرياتي وذكريات والدي الذي أسس اللبنة الأولى لها بصنوف من الكتب في التاريخ والأدب الغربي وكتب التراث العربي القديم، وأرشيف ضخم من صحف ومجلات الثمانينات والتسعينات كالصياد والأديب والناقد والمستقبل والدوحة والمعرفة والحوادث. ثم شرعت أنا بإدخال كتب جديدة/قديمة معظمها صادرة عن عمالقة اليقظة العربية، إضافة إلى أعداد وافرة من مجلات ذلك العصر مثل الرواية والرسالة والثقافة اشتريتها بمصروفي الشخصي على مدار 6 سنوات.

لم تكن المكتبات التي عادة ما تستحوذ على غرفة كاملة من المنزل أو زاوية منها، بمثابة "بريستيج" فقط أو ديكور لا بد من وجوده في منازل المثقفين وهواة المعرفة. أحد المعارف دأب على إجراء اتصالات عديدة بمقاتلي داريا لنقل مكتبته ذات 3 آلاف كتاب، من مكانها على تخوم مناطق انتشار قوات النظام، كي يتسنى له بعد ذلك نقلها خارج المدينة في أول هدنة قد تحصل. انتهى الحلم بسقوط قذيفة صاروخية على مكان المكتبة فتحولت إلى رماد.

مكتبة أخرى لأحد مشايخ داريا عرفتها بعد اندلاع القتال، حيث كان بإمكاننا دخول بعض المنازل بحثاً عن الطعام والمحروقات والكتب، كانت تزخر بكتب مفكري عصر اليقظة العربية ذوي التوجه الإسلامي. لشد ما أسرني تنوع هذه  المكتبة التي ما كنت أظن وجودها في المدينة لأنها حوت كتبا نادرة توقف ناشروها عن طباعتها، ومجلدات ضخمة قديمة على رأسها مجلة المنار التي كان يصدرها الفقيه الإصلاحي محمد رشيد رضا. شكلت هذه المكتبة مع مكتبات أخرى لاحقاً نواة لمكتبة شبابية ضخمة اتسع لها قبو سكني كامل كانت تروي ظمأ شبان المدينة للمعرفة، حتى انتهت تحت أحذية جنود الأسد، كأحد أغبى مشاهد الانتقام الصادر عنهم.

بين الحلبوني وجسر الرئيس

ربما لم تكن دمشق يوماً السوق الأكبر للكتب، أو حتى الماكينة الأضخم المنتحة للمطبوعات، لكن رفوف مكتبات الحلبوني التي اعتدت الذهاب إليها بشكل شبه يومي، كانت توفر قسماً لا بأس به من المطبوعات، كما تنتج دور النشر وعلى رأسها دار الفكر والقلم والرسالة، عشرات المصنفات تحقيقاً وتأليفاً.

لكن هذه المكتبات لم تكن تستهويني مثل بسطات الكتب التي كانت تكتظ من نزلة الحلبوني حتى جسر الرئيس؛ هنا تعرفت على الثقافة العربية والإسلامية، وعلى الأدب الروسي المترجم من دار التقدم بموسكو، وعلى كتب العقاد والمازني وطه حسين ونجيب محفوظ ومحمود تيمور. ولاحقاً شكلت هذه المجموعات القسم الأوفر من مكتبتي المنزلية.

التجار الذين يمتهنون بيع المطبوعات تحت جسر الرئيس حذقون وعلى غاية من الذكاء، لذلك تعلمت عدم إبداء دهشتي ونهمي أمام العناوين المثيرة التي كانوا يعرضونها، لأن سعر الكتاب سيرتفع ضعفين أو ثلاثة أمام مشهد الطالب المتمسك بالكتاب. أذكر أنني كنت أتلقط أعداداً هنا وهناك من مجلة الرسالة، وبعد أن اشتريت 10 أعداد متفرقة متواضعة، شعر البائع بإلحاحي على طلب المجلة فقام برفع أعداد المجلة من بسطته ثم عرض علي أرشيفاً كاملاً لها بسعر 100 ألف ليرة، وهو مبلغ ضخم جداً بالنسبة إلى طلب جامعي مثلي.

في قسم معين من الحلبوني تعرفت على مهنة قديمة لشد ما أسرتني بتفاصيلها وعراقتها واستمراريتها حتى ذلك الحين. تباريت مع زملائي في تجليد الكتب القديمة عند الوراقين، الذين كانوا يغيرون الغلاف الخارجي للكتاب بغلاف آخر كلاسيكي من الجلد المحزز مع كتابة العنوان واسم المؤلف، وأحياناً اسم مقتني الكتاب بحروف مذهبة عميقة داخل الجلد الصلب.

ولأن مكتبات الحلبوني لم تكن تقدم إلا كتباً مرضياً عنها، أو تجاوزتها الرقابة ربما بسبب الإهمال، كان من أعرفهم من المهتمين بالفكر والثقافة يبحثون دائماً عن مصادر جديدة للكتب، لا سيما الكتب الممنوعة. وكانت كتب الإخوان المسلمين على رأس تلك الممنوعات، لذلك كان حصول أحدنا على كتاب لحسن البنا أو سعيد حوا يعد بمثابة فتح جديد، إذ نسارع فوراً إلى تصوير الكتاب من خلال مطبعة أحد الأساتذة الموثوقين الذي كان يطبع جميع صفحات الكتاب عدا الغلاف الخارجي، ويستبدلها بورق مقوى أبيض اللون حتى لا يقع الكتاب بيد أحد من إياهم.

لعملية التصوير إجراءات خاصة طريفة: كان الكتاب يلف بجريدة البعث أو الثورة، ثم يوضع تحت الثياب ولا ينزع إلا أمام ماكينة التصوير، ثم يعاد لفه بالجريدة ويحمل بنفس الطريقة إلى المنازل.

تحت جسر الرئيس يستوقفني البائع وهو عجوز ذو لحية طويلة بيضاء وشاربان كبيران، قضى زهاء 30 سنة في هذا المكان عملاً ونوماً وطعاماً؛ كان موقفاً محرجاً فقد كنت أحمل كتاب "المستقبل لهذا الدين" لسيد قطب، سألني عن المؤلف بعيني ثعلب، وعندما قلت إنني لم أسمع به، من قبل انفجر ضاحكا وقال لي: لا تخف هذا كتاب ممنوع. حتى اللحظة لا يزال هذا السبعيني بثيابه المتسخة وثقافته الواسعة يثير داخلي كثيراً من الشجن، لاسيما حين أتذكر وجود بقعة من البول أسفل بنطاله.

في مكتبة الأسد والمساجد

في مكتبة الأسد تعرفت على عالم واسع جدا من المطبوعات. كل شيء مخزن هنا بين أرجاء هذا البناء الطابقي الضخم البليد. كانت المكتبة تقدم خدماتها لصنفين: حاملي "بطاقة قارئ"، وبإمكانهم القراءة في غرفة المطالعة وهي صالات واسعة نظيفة ومكيفة، فيما يحصل حاملو "بطاقة باحث" على خدمات أشمل تخولهم تصوير ما يشاؤون من الكتب والمخطوطات.

لم تكن مكتبة الأسد أحد الأمكنة التي يرتادها من أعرفهم من هواة المطبوعات، كانوا يهتمون أكثر بمكتبات الحلبوني ومكتبات المساجد الكبيرة سواء في دمشق أو ريفها. كان هناك عراقيون كثر يرتادون مكتبة الأسد، لكن الرواد السوريين كانوا قلة. أحياناً كنت أجلس وحيداً لساعات في قاعة الكتب النادرة، أو حتى قاعات المطالعة العامة. ربما حمل اسم أو مكان المكتبة القريب من ساحة الأمويين سبباً وجيهاً لامتناع القراء عن زيارتها، لا سيما بين المحافظين وهم كثرة كبيرة ممن أعرفهم.

أما مكتبة المسجد فكانت تعد أحد أهم مصادر المعرفة للمجتمع الدمشقي مدينة وريفاً. كانت كل مكتبة مرتبة بعناية فائقة تبعاً للأقسام (مثل التاريخ، الأدب، الفكر، الفقه، الحديث، علوم القرآن). وأغلب مقتنياتها كانت من دور النشر الكبيرة التي تعتني بتحقيق المصنفات الضخمة للقدماء، وهي مطبوعات باهظة الثمن لا يمكن لأي طالب جامعي شراءها إلا بشق الأنفس. القدرات المالية التي توفرت لهذه المكتبات جعلها تتضخم لتضم أقل مكتبة 500 مجلداً، فيما تضم بعض المكتبات الكبيرة التابعة لبعض المساجد بدمشق وريفها بضعة آلاف قد تصل إلى حدود 5 آلاف مجلد. أحرق الكثير منها وأهين حيث دخل الشبيحة بعد رحيل الثوار عن بعض المناطق.