على الأطلال مع عائدين إلى داريا

من صفحة المكتب التنفيذي التابع للنظام في داريا

كما أفرج النظام عن أسماء معتقلي مدينة داريا في ريف دمشق مؤخراً، والذين قضوا في سجونه تعذيباً وإعداماً، عاد ليصدر قراراً جديداً بالإفراج عن مدينتهم المنكوبة.

يروي عبدالله، (اسم وهمي) أحد أبناء داريا، لعين المدينة عن مشاهداته بعد زيارته للمدينة؛ كيف انتشرت صور بشار الأسد على مرافق الخدمات، وارتفع على سارية كبيرة علم النظام البعثي، وفوق كل طاولة مكتب صورة لحافظ الأسد: "كانت الصور مستفزة جداً، كما أجبرنا على رفع الأعلام والصور والهتاف لبشار الأسد لكي يسمح لنا بالدخول، بينما كانت كاميرات إعلام النظام تلتفّ حولنا"، يوضح محدثنا، الذي دخل إلى المدينة برفقة والدته المسنة التي فقدت وعيها عند وصولها لمدخل الحارة حيث يقع منزلها، "كانت الحارة قد سُوّيت تماماً بالأرض، ولم نستطع أن نلمح أي جزء من بيتنا، فوقعت أمي وقد أغمي عليها" قال عبدالله.

"داريا لم تعرفنا أو نعرفها… إنها شبه ميتة" بهذه الكلمات عبّر أبو خالد الذي دخل مدينته مؤخراً، وتجول في شوارعها التي تحولت لأكوام من الردم والحجارة. "تعمد النظام إذلالنا" يقول أبو خالد، ويسترسل بالحديث: في شهر آب من عام 2012 كانت المذبحة الكبرى التي ارتكبت بحق أبناء مدينتنا، وراح ضحيتها قرابة 700 شهيد ذبحوا وقتلوا بدم بارد؛ وفي شهر آب أيضاً من عام 2016 هجّر النظام شبابنا إلى الشمال، بعد أن صمدوا في وجهه لسنين؛ وعاد اليوم ليسمح لنا برؤية بيوتنا في نفس الشهر، ويجبرنا على رفع علمه وصور بشار الأسد، وتمجيد بطولاته بتحويل مدينتنا إلى خراب.

"من حقي أن أعود، لأنها مدينتي، ولأن بيتي وبيت أجدادي هنا" يصرّ أبو خالد، ويردّ على كل من يرفض العودة بأن ذلك "ليس عملاً بطولياً ونحنا أصحاب أرض وأحق فيها". تختلط مشاعر أبو خالد وهو يتمشى بين حجارة بيته، مستذكراً حياته القديمة، وذكريات عاشها بين هذه الجدران التي كانت واقفة يوماً ما، كما يحكي عن زيارته لداريا؛ على خده تتسلل دمعة خجولة، بينما يهمس بتجلد "الرجال لا تبكي. ما يحزنني ليس دمار البيوت، وإنما أهاليها المهجرين عنها".

تجاوز عدد سكان مدينة داريا 255,000 نسمة قبل اندلاع الثورة، خرج منها بعد الحملة العسكرية التي استمرت أربع سنوات 3000 مدني و700 مقاتل؛ فيما نزح بقية السكان نهاية 2012 مع بدء المعركة على المدينة إلى المناطق المحيطة بها، (جديدة وزاكية ومقليبة وصحنايا)، بالإضافة للوان وكفرسوسة في العاصمة دمشق، كما غادر قسم كبير خارج سوريا إلى دول اللجوء، خاصة (مصر وتركيا ولبنان) .

عودة الأهالي بدأت تدريجياً بعد الاجتماع بساحة المدينة الرئيسية أولاً في 28 آب من العام الجاري مع محافظ ريف دمشق ولجان المكتب التنفيذي الذي يمثل بلدية داريا، لكن لم يتجاوز عدد الأهالي الذين دخلوا داريا إلى الآن 4000 مدني، وحددت الزيارة الأولى بتوقيت معين، امتدّ من الساعة العاشرة صباحاً وحتى الخامسة عصراً.

وعلى دفعات صغيرة، بدأ السماح يومياً لعدد محدد من الأسماء، وضمن منطقة محددة، بالدخول بعد تقديمهم أوراق إثبات ملكية عقاراتهم، ومن ثم يتمّ منحهم بطاقات من المكتب التنفيذي تؤهلهم للدخول والخروج لمنازلهم بأي وقت.

عمل المكتب على إزالة الركام من بعض المواقع، وفتح شوارع، وإعادة تفعيل مخفر الشرطة وبعض منشآت الدولة، ولكن الأهالي الذين دخلوا إلى داريا لم يستطيعوا أن يتخذوا قرار العودة النهائية بعد إلى المدينة، فهي لم تزل ساحة دمار كبيرة تصل نسبتها إلى 80 %، وأثبتت تقارير إعلامية أن النظام قام بتفجير وتعفيش العشرات من البيوت بعد سيطرته عليها.

من جهة أخرى تلقّى أبناء داريا المهجرون إلى الشمال السوري خبر عودة الأهالي لداريا بشيء من الحنين، الذي سرعان ما يزول عند التفكير بمصير من تسوّل له نفسه بالعودة التي تشترط عليهم تسوية الوضع والخدمة العسكرية، لأن تهمة الخروج للشمال المحرر لا تغتفر، وقد تعرّض قسم من العائدين للاعتقال -ومنهم نساء- على طريق عودتهم إلى دمشق.

أبو عناد (53 عاماً) اضطر لمغادرة مدينته مع القوافل التي حملت المهجرين إلى الشمال، بعد أن أصرّ على البقاء في بيته طيلة أربع سنوات من الحرب الشرسة التي عصفت بالمدينة، "رغم كل القصف الذي كنا نتعرض له أيام الحملة، أتمنى أن تعود تلك الأيام" يقول الكهل الخمسيني، "كنت في بيتي حينها، ولم أكن أخاف من شيء".

العودة بالنسبة إلى أبو عناد باتت شبه مستحيلة، بسبب تعميم اسمه على الحواجز بتهمة (الإرهاب)، كما عرف مؤخراً، وعرف أيضاً أن بيته أُحرق، وأفرغت محتوياته؛ وعندما تلقى من أحد أقربائه صورة للمنزل، سرعان ما حذفها لكي لا تراها زوجته التي تتشوق لرؤية بيتها والعودة إليه: "خفت عليها من الصدمة، فزوجتي مريضة ضغط ولا تتحمل، وأنا دائماً أوهمها بأن عودتنا قريبة، وهي تنتظر" ويتوقف أبو عناد عن الكلام محاولاً أن يحبس دموع عينيه، ويكتم حشرجة صوته.