عشرات الآلاف من النازحين السوريين إلى مخيم سليمان شاه في أورفة يتمنّون من شدة الحرّ أن يأتي الشتاء باكراً

في مخيم سليمان شاه | خاص عين المدينة

ليس من السهل على أي إنسانٍ أن يترك بيته وبلده ويذهب ليسكن في خيمة في دولةٍ أخرى، ولكن هذا ما فعله أكثر من 25 ألف سوري، مضطرين. هربوا من الموت في مدنهم وقراهم إلى مخيم سليمان شاه جنوب ولاية أورفة التركية.
في أرضٍ منبسطةٍ، وعلى مساحاتٍ شاسعة تقارب مساحة بلدة آقجقلة القريبة، أقيم المخيم، وبعدد سكان يقترب من عدد سكان هذه البلدة التركية، الذين يتكلمون اللغة العربية بلهجةٍ حافظت على مفرداتٍ اندثرت في لهجات الفرات والجزيرة السورية.
يتألف المخيم من عشرة أحياء، يحتوي كلٌ منها على 500 خيمة أو 500 عائلة. فلكل عائلةٍ خيمة، ولكل عائلةٍ أيضاً منزلٌ سابقٌ وقصة نزوحٍ وقائمة هموم. يشكو الجميع من ارتفاع درجة الحرارة ورداءة الطعام المقدّم من إدارة المخيم، التي تحاول، من جهتها، بذل ما تستطيع لتلبية احتياجات النازحين، أو الضيوف، كما كتب باللغة العربية على اللوحة المعلقة على بوابة المخيم الرئيسية.

 

نازحون عمال

قبيل الغروب يصطفُّ طابورٌ طويلٌ من الرجال على باب الدخول، يحمل أغلبهم كيس خضارٍ أو أطعمة خفيفة. إنهم عمالٌ، وهذه الأكياس مشتراةٌ بعد يومٍ طويلٍ كدحوا فيه ليحصلوا على أجرةٍ يوميةٍ تُحوّل فوراً إلى هذه البضائع التي يحرص الحراس الأتراك على تفتيشها.
يعمل معظم هؤلاء في أعمال البناء بأجور يومية تبدأ من 15 ليرة تركية وتنتهي عند 50 ليرة للعمال الأكثر خبرةً ومهارةً وحظاً.
أبو علي (33 عاماً) نازحٌ من أرض الحمرة قرب مساكن هنانو في حلب. يعمل هو الآخر في مقهى ببلدة آقجقلة القريبة. أجرته اليومية 15 ليرة، يضاف إليها 15 أخرى هي أجرة شقيقته التي تصنع الشاي في المقهى نفسه. 30 ليرة مبلغٌ يؤمّن الكثير من اللوازم التي تحتاجها عائلة أبو علي المؤلفة من زوجة وثلاثة أطفال، يضاف إليهم والده العجوز وشقيقته وأسرة أخيه المؤلفة من زوجة وطفلة صغيرة اسمها رغداء. لم تحظَ رغداء، ذات الأشهر الخمسة، بأيّ حياةٍ رغيدة. يسأل أبو علي إن كان بيننا طبيبٌ ليشرح له سبب السعال الذي يكاد يخنق رغداء كل ليلة، ولم يتمكن الأطباء الأتراك من علاجه.
هنالك طبقتان في المخيم: طبقة أولى تتألف من مجموع العوائل التي تمكن أحد أفرادها من العثور على عمل، مما يعني وضعاً معيشياً أفضل من وضع الطبقة الثانية، التي لا يعمل أيٌ من أفرادها.

 

قبل الإفطار

قبل ساعةٍ من الإفطار، تزدهر حركة البيع والشراء في السوق المرتجل بشارع المخيم الرئيسي. كثيرٌ من البضائع الخفيفة معروضةٌ للبيع، وبالليرة السورية. خضار ومعلبات وسجائر ولوازم مطبخ، تمتدّ على بسطاتٍ خشبيةٍ على الأرض. لقد انقضى نهارٌ طويلٌ من الحرّ والصيام الشاق، وتوقف السكان عن ملاحقة الظلال في فسحات المخيم هرباً من الخيم الملتهبة. وزّعت إدارة المخيم مراوح كهربائية تحرّك الهواء الساخن فقط داخل الخيمة، مما يجبر الكثيرين على الخروج إلى الهنغارات الكبيرة المكيّفة، التي أعدّت لتكون حلاً لمشكلة الحرارة، أو الاختباء في ظلٍ يتشكل بين خيمتين. ومن حفرةٍ بجانب باب الخيمة تُخرج أم عدنان (نازحة أربعينية من ريف حلب) حباتٍ من الخضار لتعدّ طبقاً من السلطة لوجبة الإفطار. في هذه الحفرة تحفظ أم عدنان الخضار، بدفنها مع قوالب من الثلج القادم من خارج المخيم بطرق شتى، إذ يشاهد المئات من السوريين وقت العصر يطرقون أبواب البيوت في "آقجقلة"، سائلين عن الثلج.
تحاول أم عدنان، دون جدوى، الاستفادة من الفاصولياء المطبوخة التي قدّمتها إدارة المخيم، بتحويلها إلى شيءٍ قابل للأكل. لكن الحرّ الشديد أفسدها، مما دفع أم عدنان إلى تجاوز محاولتها تلك. وستتناول أسرتها وجبة إفطارٍ مؤلفةٍ من شرائح البطاطا المقلية وسلطة الخضار واللبن. لا يبدو زوجها متذمّراً كما تذمّر الأطفال، بل راح يتمشّى قريباً من الخيمة بانتظار أذان المغرب، ينظر إلى الشمس الآخذة بالغروب، وينظر إلى أصغر أطفاله وهو يحبو بسرعةٍ متفلتاً من رقابة الأم.

 

أمنيةٌ شائعةٌ لأبو علي

عودةٌ إلى أبو علي، عامل المقهى الذي كان موظفاً عادياً في مصنع غذائيات في حلب، والذي تظاهر أربع مرات فقط، بعد شهرين من اندلاع الثورة. والذي يلخّص قصة نزوحه القصيرة هكذا: قبل ستة أشهر من الآن، كنا في زيارة إلى حيّ الصاخور، وسمعنا من هناك صوت انفجارٍ هائل. إنه صاروخ سكود ضرب منطقتنا. أسرعنا بالعودة لنجد ثلاث حاراتٍ في أرض الحمرة وقد سويّت بيوتها بالأرض. كان الناس يخرجون الأشلاء من تحت أنقاض البيوت، وواحدٌ من هذه البيوت المدمّرة كان بيتنا. لقد نجونا يومذاك. وقلت في نفسي: حان وقت الرحيل، ولن أعود إلا بعد ان يرحل هذا المجرم. وسيرحل حتماً في يوم ما. وسنعود إلى بلادنا. ولا يهمني إن نمت مع أسرتي تحت شجرة.