شاهدٌ من سجون داعش

بدأت معاناتي مع عصابات داعش في تشرين الأول 2014 حين اعتقلوني لأسبابٍ مجهولة. لم ترحم أنيابهم الحادّة جسدي المعاق بل أذاقوني كافة أشكال العذاب.

في أواخر عام 2013، بعد بسطهم السيطرة على مدينة الباب بريف حلب الشرقيّ، بدأوا بنشر مجموعاتهم لتضليل الناس وحقنهم بالجهل والأفكار الخبيثة متغلفين بلباس الدين. وكان لقريتي، الكائنة في ريف الباب، نصيبها من دعوات تلك المجموعات. ورغم استخفافهم بأهل القرى البسطاء لم يستطيعوا التأثير عليهم أو كسب ودهم، لكن الوجبة السهلة كانت بعض الشبان أمثال محمد، الذي كان يبلغ من العمر 17 عاماً عندما قرر الانضمام إليهم بعدما أغروه بالسلطة والمال. كان محمد يعيش مراهقةً معذبةً من قبل أبيه الذي يكثر من ضربه ويجبره على العمل، مما جعله فتىً عدوانياً، حقوداً على كلّ من حوله من ناسٍ وأصدقاء. في البداية كان يذهب لرعي مواشي أسرته ولا يعود قبل أن يمارس العنف على المواشي بكيّها بسيخٍ محمّى على النار أو بكسر أعضائها. ثم تفاقمت وحشيته حتى أصبح يعطب أعضاءه محاولاً الانتحار، فبتر أعصاب يده. كان يجتمع مع من جايله في تلال القرية وكنت أشاركهم الحديث والسمر. وفي بداية قتال عصابات داعش لكتائب الثوار كان هذا الحديث يطغى على سهراتنا، فحقد عليّ وغضب من كلامي وحاول ضربي لمجرد أنني أعارض التنظيم.

وعندما سيطرت عصابات داعش على القرية وبدأوا بدعوة الناس إلى الانضمام إليهم جاءت الفرصة الكبيرة لمحمد ليمارس وحشيته وعدوانه، وليتحرّر من سجن أبيه وينتقم من كلّ أهل قريته. فجأةً غاب دون أن يعلم أحدٌ بمكانه. حاولنا البحث عنه دون جدوى، لنطمئن قلب أمه أو نهدئ من حرقتها على ولدها. ثم كانت المفاجأة الأكبر عندما عاد بلحيته الخفيفة وسلاحه الأسود ونظراته الخبيثة التي تخبّئ الكثير من نوايا الانتقام ممن حوله. حاولت إبعاده عن هذه التهلكة لكنني لم أستطع بسبب نظراته المخيفة وكلامه الحقود. كنت ذاهباً في إحدى الليالي إلى بيته محاولاً نصحه فصادفته في الطريق على دراجته ليقول لي: «وين رايح؟ عند زكور الدكاني بشان تدخن! ارجع لأن الإخوة شالوه وما بدي يشيلونك لأنك حصتي». كأن الناس ألعابٌ بأيديهم يتنافسون على قتلهم وتعذيبهم. أدرت ظهري راجعاً إلى البيت وهو يتمتم بالمقولة الشهيرة «كل ذو عاهةٍ جبار»، يستهزئ بخلقة الله لقدمي. بدأ الخوف يسري فيّ لعلمي جيداً بوحشيتهم. حاولت الذهاب إلى مناطق الجيش الحرّ بحلب لأكون بأمانٍ أكثر، ولكن والدتي رفضت. في اليوم التالي لرفضها أشهروا أنيابهم ليعتقلوني من داخل منزلي غير محترمين سنّ أمي ومرضها، وغير آبهين بأبي الكبير وطلبه منهم أن يتركوني في حال سبيلي قائلاً لهم: «إش ساوى ليكم هالوليد؟ سقَط لا يكدر يحاربكم ولا يساوي شي».

أحكموا الشريط الأسود على عينيّ وكبلوا يديّ واقتادوني إلى مكانٍ غير معلوم. أدخلوني إلى قبوٍ تحت الأرض بعدما أشبعوني ركلاً. حاولت استرحامهم ليتجنبوا قدمي المصابة بشللٍ نسبيٍّ أو ليبتعدوا عن ظهري لوجود عمليةٍ جراحيةٍ خطرة فلم يكترثوا للأمر، بل زادوا تلك الأماكن من جسدي ضرباً ليشبعوا أنفسهم العدوانية. رموني داخل زنزانةٍ مساحتها ليست أكثر من مترٍ مربع. لم يطعموني أو يسقوني ليومٍ كامل. كنت أحاول التنفس لدقيقةٍ وأقطع نفسي دقيقةً أخرى للهروب من الرائحة المقززة للزنزانة التي كانت حيطانها مشبعةً بدماء الكثير من البشر. وبعد مرور ذلك اليوم، الذي لا أتمناه حتى لأعدائي، فتحوا باب الزنزانة ليخرجوني إلى الممرّ ويبدأوا بتعذيبي وضربي حتى دخلت في غيبوبةٍ لكثرة الدماء التي نزفت من جسدي وخصوصاً من فمي. فقد كنت أحاول النطق بالشهادتين لأصبّر نفسي على الآلام الموجعة في ظهري وقدمي بعدما تقصدوا الضرب عليهما، فصرتُ كلما نطقت الشهادتين داسوا على فمي حتى كسروا أسناني الأمامية، وكأني كنت أشتمهم عندما أنطق الشهادتين. بعدما أيقظوني من غيبوبتي وجدت نفسي مكبلاً على كرسيٍّ في غرفةٍ كبيرةٍ والمحقق أمامي محاولاً سحب أيّ اعترافٍ ليكون سبباً لقتلي يعلنونه أمام الناس. اتهمني قائلاً: «ترى يا مصطفى نحن نعرف أنك عم تتواصل مع المرتدين وعم تعطيهم معلومات لقتل الإخوة، بس نحن جايبينك لحتى تعترف على باقي رفقاتك. قتلك بإذن الله قريب، بس لازم تعترف بسرعة حتى تخفف عن حالك العذاب ويتم نحرك بسرعة»! أنكرت كل تلك التهم بأنني لم أخرج قط من ريف مدينة الباب، ولم أتواصل مع أيّ أحد، وأن أصدقائي كلهم معروفون من قبلهم. فنادى أحد الحراس قائلاً له: «خذم هالأفصع الدجال تسلّم بيه لبين ما نسنّ لكم السكاكين». وكأني لعبةٌ يتسلون بها.

سحبوني إلى الممرّ ليكملوا احتفالهم بجسدي. بعد قليلٍ سمعت لهجة أحدهم تتغيّر من الخليجية إلى السورية. كان الصوت مألوفاً. حاولت التذكر فشككت في أحد الشبان من أصدقائي بحارتنا بحلب وكان منزله قريباً من منزلنا. ناديته «خالد» فاضطرب. تعمدت حينها استفزازه بلقبه المشهور بين شبان الحارة «خالد أبو مخطة، جوز القطة» فجنّ جنونه وقام بضربي أكثر وأكثر، وصار يشتمني بكل صفةٍ سيئةٍ ويعيّرني بإعاقتي. في تلك اللحظات نسيت الألم لأستحضر أحد لقاءاتي معه عندما كنا أنا وأهلي في منزلهم معزّين بمقتل أخيه الأكبر بالقصف. تحدثنا حينها عن داعش فقال لي إنه لا مشكلة له معهم بل يريد فقط أن يحفظ الأجوبة عن الأسئلة التي يطرحونها على الناس في الحواجز، فقلت له: وما هي أسئلتهم؟ جاوبني: أركان الإيمان والإسلام والوضوء والصلاة. نظرت وقتها إليه متعجباً من جهله بهذه الأمور. كما تذكرت سرقته نقود الأطفال في الحارة، وكم مرّةً كانت دوريات الشرطة تلاحقه رغم سنّه الصغير، وأنه قضى أشهراً في سجن الأحداث لضربه إحدى المعلمات في المدرسة. حينها أيقنت أن هذه الدولة هي بالفعل دولة الجهل والظلم المبنية على عناصر سارقةٍ مارقةٍ حاقدةٍ من أصحاب الجنايات وحثالة المجتمعات.

بعد عدّة أيامٍ من التعذيب اليوميّ لساعاتٍ طويلة، وتعليقي بالبلنكو وضرب رأسي بالحائط ليتأرجح جسدي ويضرب رأسي طوال الوقت، أخرجوني إلى المحقق. أعطاني دفتراً وقلماً وطلب مني كتابة كلّ ما في ذهني وكل أمرٍ مرّ عليّ. خرج لحوالي الساعة، كتبت خلالها كلّ شيءٍ عن حياتي، ليعود بعدها ويمسك الدفتر ويقرأ. لم يعجبه ما كتبته فألقى الدفتر على وجهي طالباً مني الاعتراف بشيءٍ فعلته ضد دولتهم. حينها قلت له: «هذا السويته وهذا العملته. ما اقتنعت بيه اذبحني، اقتنعت فهذا الصدق». طلب من الحراس إعادتي إلى الزنزانة حيث بقيت حوالي السبعة أيامٍ كانوا يطعموني خلالها وجبةً واحدةً في اليوم وعلبة مياهٍ ساخنة. انقضت هذه الأيام ليعيدوا إخراجي ذاهبين بي إلى المحقق. طلب مني أيضاً كتابة سيرة حياتي على الدفتر فأعدت كتابة ما كتبته في السابق. وهنا أخرجوني إلى الزنزانة الجماعية، حيث كان العديد من الشبان بتهمٍ متعددةٍ بين العلمانية والتدخين والتشبيح والجيش الحرّ. لفت انتباهي شخصٌ غريبٌ اقترب مني ليسألني عن تهمتي بلغةٍ عربيةٍ مكسّرة. أجبته فعاد إلى مكانه. تعرفت على معلم لغةٍ عربيةٍ كانت تهمته العلمانية، فقط لأنه كان يعطي درساً في أحد الصفوف لطلابٍ من الذكور والإناث. سألته عن ذلك الغريب فقال لي إنه موجودٌ منذ أن دخل المدرّس السجن. حاولت كسب ودّه لأسأله عن سبب وجوده فأجابني أنه من تركستان وقد أتى إلى هنا ليجاهد، ولما رفض قتال الجيش الحرّ زجوا به بالسجن، وهو لا يعلم شيئاً الآن عن زوجته التركستانية وأطفاله. سألته لماذا رفضت قتال الجيش الحرّ رغم أنكم تتهمونه بالردة فأجابني بأن مجموعةً من الجيش الحرّ أنقذت عائلته أثناء الاشتباكات بين داعش والجيش الحرّ في منطقة البحوث العلمية بحلب.

مرّت عدّة أيامٍ ثم فتحوا باب السجن ونادوا اسمي. انتابني الخوف من نظرات السجناء المشفقة وكأنني ذاهبٌ إلى الإعدام. ودّعت الكلّ مسلّماً أمري لله متيقناً من أني بريء. كبلوا يديّ وعصبوا عينيّ ذاهبين بي إلى سجنٍ كبيرٍ فيه الكثير من السجناء من شيوخٍ وشبانٍ تراوحت تهمهم بين التدخين وقص الشعر وحلاقة الدقن. نمت هنا ليلةً واحدةً ليأخذوني إلى القاضي الذي تحدث معي بلهجةٍ تونسيةٍ مهدداً: «من يمسّ الدولة الإسلامية نبشّره بالقتل والتنكيل حتى ولو عارضنا بكلمة واحدة». ثم قال لي: «احمد ربك عشان الخليفة خرج بعفو عام عنكم. لكن ستكون تحت الإقامة الجبرية في أراضي الخلافة». حينها خرجت من أقبيتهم بعد أن شاهدت ما لا يتخيله عقلٌ من تعذيبٍ وقهر.

منذ ثلاثة أشهرٍ أصيب خالد إصابةً بالغةً أدّت إلى بتر قدمه، وقبل أسبوعين فجّر نفسه بسيارةٍ مفخخةٍ في معارك داعش مع الجيش الحرّ في ريف حلب الشماليّ. بينما ترقى محمد في صفوف التنظيم، وما يزال يؤذي الناس في مدينة الرقة.

ebb354c8-cd92-4737-a0d0-cae2624495d8