- الرئيسية
- مقالات
- رأي
دير الزور العاصية.. تشفّي الانتقام وشيفرة المهابيل
تتيح الحياة المدينية بصورة عامة توليفات تراكمية للمواقف الاجتماعية من السلطة، وفي العموم يعمل الحوض المديني على إنتاج -وإعادة إنتاج- آليات اجتماعية تقوم بدور الوسائط التفسيرية لما يضمره العام المفتوح تجاه الخاص والمغلق في دوائر أعلى هرم السلطة أو الحكم، وهذا المضمر، وعلى الرغم من أنّ وظيفته الأساس إخفاء رد الفعل الشخصي لكل فرد من أفراده وتمويهه داخل منظومة تلغيز وتشفير مجهولة المصدر، إلّا أنّه في الغالب يستحيل إلى سلاح جمعي يعبّر عن كلّ ذات مفردة تقرّ بالانتماء إليه عبر تناقله والإمعان في تشفيره، وهو تبعاً لذلك سينقاد إلى صورة النقيض المعلن لما يفترضه هدفه السرّي.
لا تبتعد الحالة في المدن السورية عن هذا المنطق، إلّا في درجة عمقها وقوة تشفيرها وإمعانها في علنية تداولها، بالنظر لشدة قمع نظامي حافظ وبشار الأسد اللذين يشكلان نظاماً واحداً متوالداً في الواقع، ولمدى تغلغل الأجهزة الأمنية في الحياة اليومية، ولقناعة العموم بأنّ ثمة من يراقب كل همسة ونظرة وتلميحة في هذا البلد.
غير أنّ لدير الزور خصائص إضافية هي النأي الجغرافي والتوليفة الاجتماعية المتقاربة، والموقف المتمرد تجاه السلطة؛ باعتباره ممارسة فوقية ذات محتوى مستمد من قياس خاص بالشرف، وأساساً من موقف نافر من تنميط الانتماء في مدينة ترتكب عمداً -منذ منتصف القرن العشرين- مسار التخلص من أصول تفسيرها السلطوي الساذجة والكابحة للتطور.
وسيرمي العرض التالي إلى تقديم بعض الصور لأنماط التمرد الاجتماعي العمومي في ديرالزور، ولفرادة التشفير الاجتماعي في مواجهة مساعي النظام إلى تحويل الحياة في سوريا إلى ما يشبه دروس التربية العسكرية والنظام المنظم في المدارس... وأولاً: سنقرّ مسبقاً أنّ المهمة أوسع بكثير من إمكان استيعابها هنا، وثانياً: لابدّ من التأكيد أنّ تغيّر لغة المقال تمثّل ضرورة لتشخيص الحالة وليست امتثالاً لإغراء السخرية رغم قوته الجاذبة.
المقطع الأول: تسقط الإمبريالية.. وأعداؤها
خريف دير الزور جميل حقّاً، أجمل فصول السنة هناك؛ آخر بنات رياح السموم الحارة غادرت، والزمهرير الكاوي لم يصل بعد، وسيبدو الجسر المعلق -المدمر الآن- أشبه بمسار حديدي منحنٍ بين السماء وكتلتين من ذهب الطبيعة المتطاير، وفي أواسط الثمانيات كان جسر الأعيْوِر (الجسر العتيق) مازال موجوداً بنسخته الأولى العثمانية بين الدير البر الرئيسي والحويقة ( العثمانية أيضاً)، لكنّ هذا الجمال ليس ما يشغل سكان المدينة، كان ثمة حدث يمعنون في التقاطه وتناقله بسخرية ممعنة بالتشفي، فقد رشق اتحاد الفلاحين في المحافظة لافتة قماشية هائلة على طول الجسر العتيق لتهنئة "الرفيق المناضل.. الفلاح الأول" بذكر انقلابه المسمى "الحركة التصحيحية" كتب عليها خلاصة الموقف السياسي الأبدي للرفاق الفلاحين: تسقط الإمبريالية وأعداؤها.
لا بدّ أنكم تفكرون الآن بالنمر الوردي.. وحش "رجال الله" المتناسخ الذي يعود شاباً في كل مرة يُقتل فيها، لكن في دير الزور كان هذا الهراء المتناقض مناسبة لإطلاق آلية عدم الشفاعة، فاللافتة لم تجد من يسعى إلى تصحيحها، ومع أنّها تحولت إلى محج لمن يريد الضحك ثم الضحك ثم الضحك، فإنّها بقيت حتى استبدلها أحد الرفاق النابهين بأخرى أكثر بؤساً تتوعد بتدمير الإمبريالية.
وفي ديرالزور لا معنى للإمبريالية فعلاً، فهي أشبه بشبح أو "سعلوّة" يريد الجميع رؤيتها رغم كل محاولات التخويف منها.. من يدري فقد تكون سعلوّة رونالد ريغان أجمل من اشتراكية حافظ الأسد.
المقطع الثاني: سقط كلاشي
لا مسيرات تأييد مكتملة في ديرالزور، تعرف الدولة -وهو مصطلح يدمج النظام بالدولة شائع الاستخدام هناك- ذلك جيداً، مسيرات المشاعل تنتهي في نصف طريقها، وتتلاشى ثلاثة أرباع الكتلة البشرية المسحوبة رغماً عنها إلى المسيرة ما أن يقترب الحشد من تخوم شارع ستة إلّا ربع.
هناك دائماً مهابيل مشاهير يشاركون في المسيرات، وهؤلاء لهم مكانة خاصة في الدير لكنهم يجَنَّدون في المسيرات لإعطائها طابعاً أكثر قابلية للتذكر، ووجود أحدهم يتيح إنشاء ذاكرة ناقمة للحدث نفسه، ويسهّل التملص النفسي من وزر الخروج إلى المسيرة حتى بالإرغام بعد سحب الهويات في المدارس وأماكن العمل. بعبارة أخرى يتم تحويل "العرس الوطني" وفق التعريف الرسمي إلى "عرس فلان".
في الثمانيات أيضاً حملت "جموع الشعب الهادرة" أحد أشهر حشاشي ديرالزور ليهتف بحياة القائد والقيادة، سقطت فردة كلاشه (الحذاء الجلدي الشهير المصنّع في دير الزور) وبدأ يصيح: ول سقط كلاشي، ويردون بصخب هيستيري: بعثيّة…
- ول وين كلاشي!
- بعثية…
- اخوات الـ(...)
- بعثية…
المقطع الثالث: الأم الجريحة
مع حلول التسعينات انحسرت الواجهة المعلنة لغمامة تداعيات انتقام حافظ الاسد من انتفاضة الإخوان المسلمين في الثمانينات، الانتقام الذي دفعت دير الزور خلاله ثمناً باهظاً باعتقال الآلاف من شبانها وإعدام عدد كبير منهم في مذبحة سجن تدمر وبعدها.
بدا أنّ الأمور استقرت فدفع النظام باستعراض "ديمقراطي" على طريقته، والفكرة كانت إتاحة معركة انتخابية افتراضية بين مرشحين "مستقلين" تختارهم المخابرات من خارج قوائم الجبهة التي ستفوز دون أن ينتخبها أحد بالطبع.
صحت دير الزور على لوحة إعلانية عرجاء بالمعنى الحرفي للكلمة في شارع سينما فؤاد، تفيد بترشح سيدة مجهولة أطلقت على نفسها لقب "الأم الجريحة"، وهي والدة شاب قضى قتلاً في جريمة جنائية، ولديها ابنة تعاني مرضاً عقلياً، فقامت قيامة الديمقراطية في دير الزور، وباتت حملة السيدة هدايات -هذا اسم المرشحة- الشغل الشاغل للمدينة، واجتاح التأييد كل شوارع المدينة حتى أن محافظ ديرالزور وأمين فرع حزب البعث حاولا مقايضتها بالانسحاب مقابل مكاسب مالية لكنها رفضت.
أمعنت دير الزور في الانتقام الساخر، ومجدداً تصدّر أشهر مهابيل الدير السيرة العاصفة للديمقراطية التي أخرجت كل الشيفرات السياسية من صناديق الاقتراع الغاضب إلى صناديق الحياة العامة المزوّرة والملفّقة، وباتت الانتخابات نفسها جولات تعذيب يومية للمحافظ وفرع الحزب، بل إنّ المقر الانتخابي كان رصيف الشارع المقابل لفرع الأمن العسكري، ولو أن أحداً عدّ الأصوات فعلاً لكانت هدايات قد باتت عضواً في مجلس الشعب آنذاك. كانت جولة من التشهير بالدولة علناً في شوارع الدولة وبأدوات الدولة.
المقطع الرابع: بالزور بالقوة.. الكاس للفتوة
الرياضة في دير الزور جنسان.. "الفتوة والآخرين"، ومع أنّ نادي اليقظة كان حاضراً دائماً لكن "الآزوري" الديري كان عنوان التحدي، الأزرق المقابل لأحمر المنتخب ولأحمر نادي الجيش، وإذا كان ثمة فصل للرياضة عن السياسة في أي مكان من العالم فهذا أمر مستحيل في دير الزور، وحين حقق الفتوة "الفوز الأول" خلال الدوري على نادي الجيش كان الأمر احتفالاً بالفوز على "المنتخب"، لأن نادي الجيش في العرف الديري هو نادي النظام حرفياً.
ومع أن الفتوة شهد تقلبات في مواقعه نتيجة ما يوصف بعنف الجماهير، فقد كان المشجعون المحترفون يسمون مواجهاتهم مع شرطة حفظ النظام في دمشق وحلب وغيرها بأسماء معارك منفصلة، وهم يفصلون بين الفوز في المباراة وإطلاق موجة من إعلان عدم الانتماء إلى أخلاق "اتحاد سريّة الرياضي" بتأكيد متواصل على أنّ الرياضة هي انتقام من النظام ذاته. وكان يكفي حضور مباراة في ستاد ديرالزور لتسمع الأغاني التعبوية التي يبثها تلفزيون النظام تشجيعاً للمنتخب وهي تغنى بالمقلوب تماماً.
قلنا إنّ التشفير المديني للعصيان الساخر ينقلب نحو إعلان المضمر في صورته الأكثر فجاجة -ورهافة حتماً-، وبينما يُفترض أن تؤدى إجراءات تسويق "الدولة" ككيان مستقر و"أبدي" في صورة "قائدنا إلى الأبد" فقد كانت ديرالزور تجرفها نحو ما يشبه لافتة اتحاد الفلاحين... "تسقط الدولة وأعداؤها".
بيت عربي قديم حي الشيخ ياسين