درعا في بداية العام السادس للثورة

(شهادة)[1]

د. محمد العمّار[2]

تشهد درعا -مهد الثورة- وأريافها، خاصّةً الغربية منها، تطوّراتٍ تعدّ الأخطر منذ انطلاقة الثورة في الثامن عشر من شهر آذار لعام ألفين وأحد عشر. لكن المراقب لسير الأحداث يستطيع أن يدرك أن هذه الحرب هي تطوّرٌ للحرب التي بدأت قبل حوالي العام في ريف القنيطرة، وخاصّةً في منطقة القحطانية، حيث تحصّنت جماعةٌ إسلاميةٌ وشكّلت ما يشبه إمارةً صغيرة، واصطدمت مع جبهة النصرة في ما يعدّ صراعاً على النفوذ في المنطقة بين الفريقين اللذين دارت بينهما حربٌ ضروسٌ امتدّت حوالي الشهرين، استطاعت النصرة أن تورّط فيها فصائل من الجيش الحرّ أشهرها ألوية الفرقان وجبهة ثوار سوريا، وسقط فيها حوالي المئتي قتيلٍ من الطرفين، واتُّهمت فيها الجبهة بتصفية إسلاميين بعد أن ألقوا سلاحهم، وبالإجهاز على الجرحى. بانتهاء هذه الحرب لم تنته المشكلة بل تطاير شررها في ما بعد ليلهب حوض اليرموك الذي يسيطر عليه لواء شهداء اليرموك[3]، إثر لجوء قائد حرب القحطانية، أبو مصعب الفنوصي، إلى هذا اللواء الذي تقدّم واقتحم أحد حواجز الجبهة في بلدة سحم الجولان وقتل خمسةً من عناصرها.

كان الطرف القويّ في الحرب الأولى على لواء شهداء اليرموك هو جبهة النصرة، التي استطاعت توريط دار العدل وأحرار الشام في المعارك، بحسب المعلومات المتوافرة لديّ، وخبرتي في مساعي الصلح التي استمرّت طيلة الصيف الماضي وكنت من أطلقها، لحقن الدم وصيانة السلم بين الفصائل ومنع تحوّل السلاح إلى لغة حوارٍ بينها، وإظهار المجتمع المدنيّ في ريف درعا كقوّة فصلٍ ومصدر سلطة. لكن هذه المساعي واجهتها لغةٌ خشبيةٌ وموقفٌ متصلبٌ غير قابلٍ للتفاوض من جبهة النصرة ودار العدل، في حين كان "الشهداء" مع أيّ مسعىً للصلح، وكانوا مستعدين لتقديم أيّ تنازلٍ في سبيل وقف الحرب وإنهاء النزاع. الأمر الذي كان الطرف الآخر يشكّك فيه بصورةٍ دائمة، ويرى أنه استراحة محاربٍ للاستعداد للحرب الفاصلة، وهو ما لم نجد عليه دليلاً إلا سوء الظن، وغلبة الشائعة، والموقف المسبق من الآخر.

انتهت محاولات القضاء على لواء شهداء اليرموك بفشلٍ ذريع، زاد ثقة اللواء في نفسه. وكانت الحرب قد اضطرّته إلى الاستقواء بأيّ ناصر، ويبدو أن داعش قدّمت له بعض المدد. وصرنا في كلّ مرّةٍ نلحظ تغيّراتٍ في اللواء حتى أخذنا، في الآونة الأخيرة، نسمع لغةً مختلفةً تماماً عما كنا نسمعه في السابق. صار الحديث عن مشروع الدولة الإسلامية صريحاً واضحاً، وصارت اللغة الخشبية والمواقف الحديدية غير التفاوضية حاضرةً بقوّةٍ في أحاديثهم، وبدأت القيادة التاريخية تفقد قدرتها على اتخاذ القرار لصالح قياداتٍ شابةٍ وافدة، يغلب عليها التشنج والسطحية والحرْفية. في هذا الوقت بالذات بدأت الجبهة الأخرى تشعر بالخيبة وانسداد الأفق وتحاول تأجيل المعركة. اجتمعنا في لجنة الصلح لتسجيل شهادةٍ تسمّي الأمور بأسمائها وتنشر في الإعلام، ولاعتباراتٍ كثيرةٍ ليس هنا مجال ذكرها أعلنت انسحابي من اللجنة.

وفي ذلك الوقت تغيّرت قيادة الجبهة وتسلمها رجلٌ لا نعرفه لكننا سمعنا سابقاً أنه من حمائمها، وأنه يحترم مساعي اللجنة، وأنه يميل إلى الصلح. فاتصلت بقائد لواء الشهداء أبو عبيدة، وهو فلسطينيٌّ سوريٌّ من مخيم درعا للاجئين الفلسطينيين، في الخمسينات من العمر، وله ماضٍ جهاديٌّ في أفغانستان، وقد تولى قيادة اللواء بعد مقتل القائد السابق أبو علي البريدي (الخال) في عمليةٍ انتحاريةٍ دبرتها جبهة النصرة، وألمحت له أنني أرغب في تجديد مساعي الصلح، خاصّةً وأن هناك حدثين مهمين في درعا:

  • تسلم أبو أحمد أخلاق قيادة جبهة النصرة.
  • حاجة جبهة درعا إلى وحدة السلاح بعد بدء معركة الشيخ مسكين التي استطاعت قوّات النظام، مدعومةً بالطيران الروسيّ، السيطرة عليها بعد معارك دامت حوالي الأربعين يوماً تمخّضت عن التدمير الكامل للمدينة، إذ لم تتمكن قوّات النظام من التقدّم إلا بعد أن حوّلتها إلى ركام، وفقدت ما يربو على ألف قتيل.

لم يتقبل أبو عبيدة الفكرة. وقال ما فهمت منه إنهم ينشطون في زرع خلايا نائمة، وإنهم يفكرون في التمدّد إلى باقي المحافظة. بعد أيامٍ سمعت من أحد الناشطين عن قيام بعض الإسلاميين حسني السمعة، بقيادة مالك فيصل الفروان، بتشكيل فصيلٍ إسلاميٍّ في مدينة إنخل. عندها تذكرت مقولة قائد شهداء اليرموك وقلت لصاحبي إنهم من جماعة الشهداء، فأنكر ذلك. وقاموا باستدعاء قائد الفصيل الجديد إلى تجمّع الخير والإصلاح في مدينة إنخل[4] فأنكر أيّ صلةٍ لهم بجماعة الدولة، وقبلوا منه ذلك. بعدها نشطت عملياتٌ في المنطقة كان معظم القتلى فيها من منتسبي جبهة النصرة، وقُتل بعض من أصبحوا يعرفون باسم (الدواعش)، وأصبح الفصيل المشار إليه في إنخل أكثر ميلاً إلى التحدّي والتصريح عن الذات. وفي الجمعة التي سبقت اندلاع المواجهات، التي بدأت صبيحة يوم الجمعة في الثامن عشر من شهر آذار لعام ألفين وستة عشر، قاموا بالظهور العلنيّ المسلح في أحد المساجد، وصرّح خطيبهم بكفر منتسبي الجيش الحرّ واستباحة دمائهم واستحلال أموالهم...

تنبّه منتسبو الجيش الحرّ إلى خطورة الأمر، وقرّروا إخراج الفصيل من إنخل. وتولى الموضوع لواء مجاهدي حوران وآزرته معظم فصائل الجيش الحرّ في المدينة وجبهة النصرة. وتمّت بينهم مفاوضاتٌ -توسّط فيها تجمّع الخير والإصلاح- توّجت بالاتفاق على خروج الفصيل ظهر اليوم التالي. وفي صباح الموعد المحدّد تطوّرت مشادّةٌ كلاميةٌ بين أحد المسؤولين السياسيين للجيش الحرّ وصديقٍ له ينتمي إلى النصرة وبين جماعةٍ من (الدواعش) إلى إطلاق نارٍ قتل على إثره أربعة أفرادٍ ينتمون إلى النصرة والجيش الحرّ، واندلعت المعارك التي حقق فيها منتمو "الدولة" تقدّماً ملحوظاً في اليوم الأول، مما يؤكد ادّعاء قادة الجيش الحرّ بأن (الدواعش) غيّروا النية وفكروا في السيطرة على المدينة، وأنهم من بدأ الحرب. وفي اليوم الثاني انقلبت الأمور وسيطر الجيش الحرّ المتحالف مع النصرة، وقرّر منتسبو "الدولة" المغادرة، وتمكنوا من ذلك بطرقٍ مختلفة. وانجلت المعركة عن خروجهم من المدينة، وقتل قائدهم وحوالي عشرة أشخاصٍ معظمهم من الحرّ والنصرة. أحسّ لواء شهداء اليرموك بخسارةٍ كبيرةٍ بخسارته مدينة إنخل التي كان يظنّ أنها في قبضته، فقام بمباغتة الجيش الحرّ وهاجم بلدة تسيل، ثم اقتحم بلدة سحم وتعثرت خطاه وتوقف تقدّمه على أبواب بلدة حيط. وفي حدثٍ مؤثرٍ ومتوقعٍ أعلنت حركة المثنى[5] في اليوم التالي انضمامها إلى المعركة لصالح شهداء اليرموك، وقطعت الطرق في أماكن سيطرتها. خسرت الحركة بعض مواقعها وكسبت بعض المواقع. وفي المقابل تحرّك الجيش الحرّ بتثاقلٍ وبأسلوبٍ رخوٍ ومتردّدٍ. وقام، في الأيام الأخيرة، باستعادة جزءٍ من بلدة تسيل وحاجزٍ كبيرٍ من حواجز اللواء.

أعتقد أن الجيش الحرّ قادرٌ، من حيث العدّة والعدد، على كسب المعركة وإنهاء وجود داعش في حوران، لكن تنقصه الإرادة والعزيمة لفعل ذلك. وأعتقد أن خروج اللواء من مواقعه وتمدّده سيضعفه ويجعله عرضةً لخسائر قد تكون بداية النهاية لهذه الظاهرة في درعا.


 

[1]- لا تتبنى "عين المدينة" ولا تنفي المعلومات الواردة في هذه الشهادة.
[2]- طبيبٌ ومعارضٌ سياسيٌّ من مواليد 1962. كان على قائمة الممنوعين من السفر قبل الثورة، واعتقل خمس مرّاتٍ في سياق الثورة. يدير حالياً عيادةً عامةً خيريةً ومركزاً للحراك السلميّ في ريف درعا الغربيّ (جاسم). وله نشاطٌ اجتماعيٌّ واسع.
[3]- لواء من ألوية الجيش الحرّ سيطر على منطقة حوض وادي اليرموك. منتسبوه من أبناء المنطقة، وله ماضٍ مجيدٌ كجيش حرّ يسيطر عليه إسلاميون من أبناء المنطقة. انضمّ إليه بعض المتشدّدين الذين انشقوا عن النصرة وكانوا السبب المباشر في تشدّد اللواء بحسب ما بيّنت مشاهداتنا، وحاولوا أن يفرضوا عليه فقهاً متشدداً أحادياً، مع ميل إلى التكفير والحرْفية، الأمر الذي كان يتحفظ عليه القادة التاريخيون للواء، لكن الحرب الجائرة وحاجته إلى المدد هي التي ألقت به في أحضان تنظيم الدولة. وكان ممن لجأوا إلى اللواء الشرعيّ العام للنصرة في مدينة إنخل أيام ازدهار النصرة فيها، وهو أردنيٌّ درس الهندسة المدنية يدعى أبو عبد الملك. وفي ثاني زيارةٍ لنا لأبي علي البريدي (الخال)، قائد لواء شهداء اليرموك وقتها، استدعى الرجل ليرى رأيه في ما نقوله عن عبثية الحرب وآثارها المدمّرة على المنطقة والثورة. وكان موقفه إيجابياً، فقد دارت بيننا حواراتٌ عميقةٌ لما تقابلنا في إنخل بالصدفة خلال إحدى زياراتي للمشفى الميدانيّ.
[4]- تجمعٌ مدنيٌّ منبثقٌ عن مركز الحراك السلميّ في جاسم.
[5]- حركةٌ إسلاميةٌ متشدّدةٌ لها إنجازاتٌ كبيرةٌ في جنوب درعا في الحرب ضد النظام. كان بعض قادتها وسطاء في الحرب الأولى ضد لواء شهداء اليرموك، مع تعاطفٍ واضحٍ مع اللواء. اتهمت أخيراً ببعض الممارسات الخطيرة، كاغتيال رئيس دار العدل واختطاف المحافظ.