خمسة عقود من اليأس تحت حكم نظام الأسد

علا الرفاعي
12 آذار عن Journal of Middle Eastern Politics and Policy
ترجمة مأمون حلبي

 في حين يشير 12 آذار 2021 إلى اكتمال خمسين عاماً من الديكتاتورية والإرهاب في سوريا منذ انقلاب حافظ الأسد المشؤوم، فإنّ الخامس عشر من آذار 2021 يمثّل الذكرى السنوية العاشرة للثورة السورية ضد نظام الأسد. بالنسبة إلى معظم السوريين، على الأقل منذ عام 2011، فكرة الوطن ذاتها أخذت تتبدل تحت أقدامهم. فها هي أمة بكاملها قد أصبحت مشرّدة ومقتلعة قسراً خلال السنوات العشر المنصرمة.

بعد هروبنا من دمشق مسقط رأسي، عام 2005 بسبب تهديدات مباشرة بالموت من قِبل بشار الأسد، لا نزال أنا وأفراد عائلتي، نواصل كفاحنا لفهم واستيعاب فكرة الوطن. أين هو الوطن وماذا يعني؟ معظم الناس لا يشقّون طريقهم في الحياة عبر العوائق والصعاب مثلما أفعل أنا. بما أنني مهاجرة البارحة واليوم وغداً، فأنا على الدوام مشغولة التفكير بالسؤال عن أي جزء مني ينتمي ويمتزج أكثر من غيره، وعن أي جوانب من كياني تستثير القدر الأقل من الانتماء والامتزاج. أفتش عن الوطن في أشياء يومي الصغيرة كل يوم؛ أحياناً يكسب هذا العمل معقوليته، لكن في معظم الوقت هو صراع. ربما أنّ فكرة الوطن هي كذلك حالياً، فهي الألم الجمعي الذي يحمله السوريون معهم على هذه الأرض، ونحن نتقاسم هذا الوطن بغض النظر عن المكان الذي نجد أنفسنا فيه، فقدرنا يبدو مقرراً من قِبل الطغيان. لكن أهكذا ينبغي أن يكون الأمر؟ أرفض قبول ذلك.

أرى أنّ السوريين يعتبرون نظام بشار الأسد وأبيه مسؤولاً عن كل الجرائم المرتكبة بحقهم، وبدون عملية المساءلة سيكون المستقبل أشد قتامة، فالرعب اليومي الذي شهدته سوريا خلال العقد المنصرم على مرأى العالم لا يشبه ما شهدته من قبل. ولكن، بعد عقد من اليأس التام، هل سيكون السوريون أحراراً ذات يوم؟ أود أن أعتقد ذلك، وأود أن أرى ذلك يحدث.

 وأنا أناقش هذا السؤال في ذهني، تحضرني كلمات غاندي: "تذكروا أنه على مدار التاريخ كان هناك دائماً وجود للطغاة والقتلة، ولبعض الوقت كان يبدو أنهم لا يُهزمون. لكن في نهاية المطاف، كانوا دوماً يسقطون. دوماً". 

أحلم بسوريا كبلدٍ الشعب فيه هو من يقرر مصير الأمة وليس رجل واحد! الشعب، وليس عائلة واحدة! بشار الأسد لن يتغير، فهو يعرف فقط كيف يدمر بلداً ويحرقها محوّلاً إياها إلى رماد. الصمت يشجّع مرضه. يجب عدم السماح لبشار الأسد أن يصبح أقوى. المهاجرون واللاجئون السوريون في كل أنحاء المعمورة يتقاسمون موطن الألم هذا، في حين أنهم يحلمون بوطن تملؤه الحرية والعدالة وحقوق الإنسان الأساسية.

طوال أربعة عقود من القمع عانى السوريون بصمت، وخلال هذا العقد الأخير يجدون أنفسهم دوماً ضائعين ودوماً يطلبون الإرشادات. يشعرون أنهم عالقون في دوامة تعصف بهم في أي طريق تهب فيه الرياح. يحزمون هوياتهم في حقيبة سفر ويبحثون عن وطن جديد ليضربوا جذورهم فيه، آملين أنه حيثما توجد جذور توجد قوة. 

لكن، يا للخيبة! كانوا يصطدمون بحقيقة أنهم مجرد طبقة على سطح التربة. يعملون بكد وينجحون، مع ذلك ما زالوا يشعرون أنهم بلا وطن، مغرّبين وخارج المكان الذي ألفوه. يجب أن تتسع حيواتهم في حقائب الأمتعة الصغيرة من أجل الرحلة التي سيقومون بها. معظم صور الطفولة ضاعت. بضع صور فقط تم إنقاذها، وهم يحملونها معهم من أرض إلى أخرى. آمالهم وأحلامهم أصبحت هباءً منثوراً.

إنهم ينتمون إلى اللامكان، مع ذلك يكافحون في كل مكان من أجل فسحة تتسع لهم. إنهم غير مرئيين أبداً.. ينبغي أن يكونوا مرئيين.

أنا سورية بالولادة وأمريكية بالاختيار. في 7 أيلول 2005 هربنا أنا وأفراد أسرتي من سوريا قسراً. مع أني كنت أحمل الكراهية والاحتقار للمنظومة التي نشأتُ وكبرت فيها، إلا أنّ اقتلاعي من جذوري كان أمراً مؤلماً. أنا وعائلتي لم نغادر سوريا بمحض إرادتنا.

كلا. هذا خيار قررته لنا السلطات السورية التي يكمن ادعاؤها الوحيد بالشرعية في حقيقة أنهم يمتلكون السلطة، والتي كان مبررها الوحيد في أمرنا بمغادرة بلدنا رغبتُهم في أن لا يُعتبروا محاسَبين عن الطريقة التي يمارسون بها سلطتهم.

إشاحة النظر الإرادية التي كانت جزءاً ضرورياً من وجودي في سوريا -وجعلت الحياة قابلة للاحتمال- زالت في اللحظة التي وطأت فيها قدماي الولايات المتحدة. رؤيتي المشوشة في ذلك الوقت لم تكن أكثر من فترة انتقالية ضرورية كان عليّ أثناءها أن أتعلّم كيف أرى من جديد، وكيف أعاود العيش، وكيف أستعيد الشعور بالمعنى.

كان التغلّب على صعوبات الحياة مُثُلاً احتضنتها عائلتي، وكفاح هذه العائلة التاريخي وإنجازاتها يُبقيني أغذُّ السير إلى الأمام. 

كانت جدة أمي مدرّسة لمادة اللغة الانكليزية في مدينة حيفا أثناء الانتداب البريطاني على فلسطين، بينما نال جد أمي درجة الدكتوراه في الهندسة المدنية "عن طريق المراسلة" من جامعة بينيت في مدينة شيفيلد الانكليزية. عام 1948 هربت جدتي برفقة والديها من حيفا مسقط رأسهم إلى سوريا، عندما كان عمرها ست سنوات. وجدت الأسرة مأوى لها في كنيس جوبر القديم في دمشق. وفي سوريا، ترعرعت جدتي وأصبحت من أوائل الطبيبات في الستينيات، وكانت هي من زرع عندي أخلاق عمل صارمة وقيمة التعليم، وهما أمران لا يمكن لمخلوق أن ينتزعهما مني. من ناحية أبي، تحظى عائلة الرفاعي باحترام كبير بصفتها عائلة علماء دين بارزين في سوريا. 

بسبب نظام الأسد، فقدتُ جدي من ناحية أمي الذي مات تحت التعذيب في سجون الأسد في بداية الثمانينيات. أيضاً فقدت أبي عام 1991 بسبب تعقيدات صحية نتيجة للتعذيب الذي مورس عليه من قِبل آل الأسد. وفي عام 2005 فقدت بلدي بسبب تهديدات الموت المباشرة لأمي وزوجها. تُرى الألم محمولاً من جيل إلى آخر! متى سينتهي ذلك؟.

كأمريكيين، لدينا ما يكفي من الموارد لنساعد قبل أن يشكل إهمالنا الجمعي وصمة لا تُمحى. بإمكان أمريكا أن تكون قائدة بالاستقامة في قول الحقيقة في عالم يفتقر إليها. لدى أمريكا قوة جعل الناس يستمعون والعزيمة للعمل على هذا الأمر. ملايين الأطفال السوريين يصرخون طالبين المساعدة. علينا أن نقاوم خَدرنا اتجاه آلامهم وأن نأسف جميعنا لفقدان الأرواح. 

طوال أربعة عقود أسكت الطغيان والخوف أصوات ملايين السوريين، لكن منذ عام 2011 حطّم السوريون الخوف، لكن ليواجهوا العنف والتعذيب والإرهاب والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية والخطف والاغتيال والمقابر الجماعية والسياسات الإقليمية والدولية والأنوات المتضخمة والمصالح.. وتطول القائمة. نشطاء حقوق الإنسان في سوريا، والمقاتلون من أجل الحرية الذين لم يعد معظمهم معنا، ضحّوا بأرواحهم من أجل الحرية والديمقراطية. علينا أن نواصل إرثهم ونحقق أحلامهم، على الأقل من أجل أطفالهم.

من أجل إنقاذ سوريا، يجب أن تتغير سياسة أمريكا، فهذه السياسة لا يمكن أن تكون استمراراً للأمر الواقع، وقد حان الوقت لتصحيح الأخطاء الماضية التي ارتكبتها الإدارات الأمريكية السابقة. طائفية، ومنظومة صحيّة فاشلة، واقتصاد منهار، ونزوح، وانتهاكات لحقوق الإنسان هي مشكلات المستقبل في سوريا إن بقينا صامتين. هذه المشكلات هي بالتأكيد المستقبل الوحيد الذي سيكون لدى السوريين إن لم نتصرف الآن. وهذه حقيقة بسيطة: ما نتغاضى عنه، نمكّن له.