حين شرَعت الجدران بالكلام

ريما فليحان تحفر ثلاثة مستوياتٍ لذكرياتها

            صدر هذا الكتاب مؤخراً عن اتحاد الديمقراطيين السوريين. وتستعيد فيه كاتبة السيناريو والناشطة الحقوقية والمعارِضة السورية قصّتها مع الثورة منذ ذاكرة القهر المديد، الذي أصابها كما باقي السوريين، إلى الشهور الأولى للانتفاضة طلباً للحرية والكرامة، وصولاً إلى نشاطها في المعارضة السياسية، الذي انتهى باستقالتها من الائتلاف الوطنيّ.

واحدةٌ من مقدّماتٍ كثيرة

قبل شهرين من مظاهرة الحريقة بدمشق، في 17 شباط 2011، حين سيهتف السوريون للمرّة الأولى «الشعب السوري ما بينذل»؛ كانت فليحان تركب تاكسياً يقلّها من أبو رمانة إلى الحلبوني. وعند فندق روتانا الشهير، أحد أبرز معالم طريقة بشار الأسد في حكم البلاد، توقفت سيارة هامر كبيرة أمام سيارة الأجرة التي كان سائقها هرماً استفزّه سير الهامر عكس الاتجاه ووقوفها أمام سيارته فضغط على الزمور وتمتم ببعض الشتائم. نزل سائق الهامر بغضبٍ وتقدّم باتجاه الرجل الذي تسمّر مترقباً خائفاً وثبّت يديه على المقود، بينما تجمّدت فليحان في المقعد الخلفيّ وهي تحدّق في الشابّ الملتحي قليلاً يقترب من السيارة كثورٍ هائج، تحاول تبيّن ملامحه التي بدت مألوفة. أدخل يده من شبّاك التكسي وأمسك برأس الرجل وبدأ بضربه وهو يصرخ: «عم تزمّرلي يا كرّ!!!.. ولك أنا ماهر الأسد يا حيوان!». امتدّت يده إلى المسدّس حين لمح ارتجاف الراكبة فأدخل رأسه من الشبّاك وحدّق بها ثم قال للرجل: «لولا هالستّ اللي معك كنت شفت يا حيوان». غادر وصعد إلى سيارته وانطلق كالمجنون، بينما انهمرت دموع السائق وكاتبة السيناريو معاً.

بيان الحليب

شاركت فليحان في الاعتصامات التي جرت أمام السفارتين المصرية والليبية تأييداً لحراك الشعبين في إطار الربيع العربيّ، ثم خرجت في المظاهرات السورية الأولى. وبكت، مرّةً أخرى، بغزارةٍ، ولكن بطعمٍ مختلفٍ جداً، حين سمعت صوتها يهتف «الشعب يريد إسقاط النظام». ولكن اسمها ارتبط بما عرف وقتها ببيان الحليب.

كانت قوّات النظام قد حاصرت درعا، أملاً في خنق الثورة في مهدها. وبدأت معالم الجوع تظهر في المحافظة المجاورة للسويداء، مسقط رأس فليحان التي أبت، مثل كثيرين من أبناء السويداء الدروز، الاستجابة إلى الإشارات الطائفية التي بثّها النظام. كانت الواحدة ليلاً حين وصلت إلى بريد صفحة فليحان على الفيسبوك صورةٌ لطفلٍ من درعا، يحمل زجاجة الحليب الفارغة في يده، وعلى جبينه كُتب: جوعان. توارت كاتبة السيناريو فجأةً وحضرت الأم التي استذكرت صورة ابنها الذي كان يشبه الطفل من درعا. وخلال دقيقتين كتبت –دون أي تفكيرٍ- نداءً عاجلاً إلى «الحكومة السورية»، تطالبها فيه بالسماح بدخول المواد التموينية والأدوية وأغذية الأطفال «الذين لا يمكن أن يكونوا مندسّين في أيٍّ من العصابات... أطفال درعا جائعون ويحتاجون للأغذية والأدوية بشكلٍ عاجلٍ وطارئ».

خلال ساعتين كان 400 شخصٍ قد وقّعوا على البيان، وبعد يومٍ واحدٍ بلغوا 1200، وتمّ تداوله على كل الفضائيات العربية الشهيرة ووكالات الأنباء، وجنّ ماهر الأسد ثانيةً.

فقد كان من أبرز الموقّعين فنانون ومخرجون وكتّاب سيناريو... إلخ، مما يهدّد رواية النظام عن العصابات المسلحة، كما يمسّ بشكلٍ مباشرٍ إحدى «الإقطاعات» التي اختصّ بها ماهر خلال عشر سنواتٍ من حكم أخيه بشار، وهي الوسط الفنّيّ.

«1200 مشنقة رح تتعلّق إلهم بساحة الأمويين»، هذا ما قاله مكتب ماهر موبّخاً مدير إذاعة شام التي لم تكن قد التقطت ما يريده النظام بالضبط، فتجرّأت على استضافة فليحان وبعض الموقّعين ليوضحوا موقفهم. بينما كان المخرج نجدت أنزور أسرع، فقاد حملةً لحضّ شركات الإنتاج على مقاطعة الموقّعين. وخوّن المخرج هشام شربتجي ابنته المخرجة رشا على الهواء.

المعارضة... جهودٌ عبثية

بخلاف ذكريات فليحان عن سورية الثورة، وصولاً إلى خروجها من البلاد في أيلول 2011، إثر تعرّضها لتهديدات المخابرات الجوّية بالقتل أو بتصفية أحد طفليها؛ تبدو ذاكرتها في المعارضة كابيةً ومضطربة؛ تكتفي بإدراج نصوص البيانات أو الخطب أو مقالاتٍ قديمة، رغم أنها كانت من أوائل أعضاء المجلس الوطنيّ ثم الائتلاف، كما شاركت بفعاليةٍ في تنظيم مؤتمر القاهرة لتوحيد المعارضة، في 2012، وألقت كلماتٍ في البرلمان الأوروبيّ وفي مؤتمر أصدقاء الشعب السوري في باريس وسواهما، وكانت عضو وفد المعارضة لمؤتمر جنيف2، والتقت بممثلين عن الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية وجامعة الدول العربية وشخصياتٍ عديدة من وزارات خارجيةٍ كثيرةٍ حول العالم.

«ولكن هذا لم يكن كافياً، فوجود الهواء لا يعني أبداً أن الأوكسجين كان كافياً...».