حراك السويداء الثوري (2 من 2)

السويداء قبل الثورة

كانت علاقة المحافظة بنظام الأسد متوترة نتيجة التهميش الذي مارسه عليها، وكذلك بسبب حصتها من عموم سياساته في جميع المناطق السورية. فكما ذكرنا عمل على تهميش العائلات الكبرى التي لها دور وطني كبير سابق ولها حضور على صعيد المجتمع المحلي، والعمل على دعم عائلات أقل شأناً، وربما غير معروفة، همها الوحيد هو البقاء في المكانة التي أوصلها إليها الأسد، ولذلك فهي تمارس دور الدعاية له والدفاع عنه، وهو ما فعله في جميع المناطق السورية. لكن العائلات لم تكن تقف بمجملها في خط معين ثابت، فقد انقسمت بين مؤيد للنظام ومعارض له. وقد عرفت عائلات بغالبيتها بدعم النظام -مع وجود شخصيات فيها لا توافق على هذا التوجه- كعائلات أبو حمرة وزهر الدين التي ينتمي إليها عصام زهر الدين أحد أبرز ضباط الجيش من السويداء، كما همّش النظام عائلات أخرى وإن حافظ على بعض أبنائها ممن عرفوا بالولاء له، من أمثال عائلات الشوفي والنبواني والمغوش وغيرها.

ولا يقف الانقسام عند الحدود السورية، بل يتعداه إلى موقف الطائفة وانقساماتها اللبنانية واصطفافات زعمائها بين مؤيد للأسد، مثل طلال أرسلان، ووليد جنبلاط المناهض لنظام الأسد، وبالتالي ينتقل هذا الانقسام إلى السويداء بفعل تأثير الزعيمين. لكن الدور الأكبر يلعبه وئام وهاب المعروف بولائه المطلق للأسد، والذي حشد له مستقبلين من الأهالي حين زار السويداء أكثر من مرة، وعمل على تشكيل ميليشيا داعمة له من أبنائها.

ويعدّ الإعلامي فيصل القاسم أبرز أبناء السويداء المعارضين الذين قام النظام بالانتقام منهم، إذ اعتدى الشبيحة على منزله وحوّلوه إلى مقر للدفاع الوطني رفعت فوقه صور رأس النظام. كما كان لأغنية «يا حيف» التي انطلقت في بداية الثورة بصوت الفنان سميح شقير دورٌ في نقل معاناة الثوار من فنان عارض النظام. وكذلك هناك العديد من المفكرين والمثقفين المعارضين من أبناء السويداء.

 مشاركة نسائية

أخذت مظاهرات السويداء طابع المشاركة من الجنسين، فكانت الثائرة إلى جانب الثائر في الاحتجاجات التي ندر أن تقوم دون وجود العنصر النسائي، إذ اعتبر الثوار أن الحرية لا تتجزأ. ولم تكن نساء السويداء يوماً على الحياد من الحراك المدني، وقد أكدن هذا بعدة اعتصامات منددة بالمجازر وباستباحة الدم السوري، منها اعتصام في ساحة تشرين وسط المدينة، واعتصام دوار الجرة، واعتصامات ومظاهرات نسائية عدة. كما لم تخل المدينة من الناشطات، سواء إنسانياً أو إعلامياً أو سياسياً، اللاتي رفضن حكم الاستبداد. وقد لمعت أسماء كثير من السيدات والحرائر في الثورة من محافظة السويداء، ورغم الحصار الأمني لا يزال العديد منهن ينشطن حتى الآن ضمن الحراك الثوري بكل أشكاله.

رجال الدين

مدينة السويداء ذات لون إثني واحد، إذ ينتمي أهلها إلى طائفة الموحدين الدروز التي يسيّر أمورها شيوخ العقل، وهؤلاء ينتمون إلى ثلاث عائلات معروفة هي الهجري والحناوي وجربوع. مهمة شيوخ العقل قيادة الطائفة دينياً وحفظها اجتماعياً وضمان وحدتها وتماسكها، وكانت لهم أدوار كبيرة في تاريخ المحافظة، وقد وقفوا مع أبناء السويداء في ثورتها الأولى إلى جانب سلطان باشا الأطرش. لكن ذلك لم يمنع استغلال بعضهم من نظام الأسد وتجيير مواقعهم لمصلحته، كما فعل مع رجال الدين من الطوائف الأخرى الإسلامية أو المسيحية، في تنحية من يقف في وجهه ودعم من يحقق مصالحه. إذ يتهم ناشطو السويداء النظام بتصفية الشيخ أحمد الهجري الذي عرف بدعمه للحراك، من خلال افتعال حادث سير، وتعيين أخيه حكمت بدلاً عنه، وهو الموالي لنظام الأسد والذي استقدم من فنزويلا حيث كان يقيم ليحل محل أخيه. وكذلك عمل النظام على تحجيم بعض الشيوخ الذين لهم دور اجتماعي فعال في السويداء وما حولها.

حركة رجال الكرامة

لم يقتصر الحراك على الوجه المدني الشعبي بل انتقل إلى بعض المشايخ الذين عملوا على تجنيب السويداء الانخراط مع النظام، وفي الوقت ذاته الدفاع عنها وعن المكون الدرزي.

تقول شمس، وهي ناشطة في المجتمع المدني: انطلقت الحركة في بداية العام 2015 لحماية السويداء من تدخلات الآخرين، خاصة بعدما روّج النظام أن جبهة النصرة تريد مهاجمتها، إذ افتعل معركة بلدة داما والتي غيرت من توجه ما سمّي بعدها رجال الكرامة، حين اكتشف من حضر المعركة أن إطلاق النار عليهم كان من قبل قوات الأمن، وقد قتل فيها أحد إخوة الشيخ أبو فهد وحيد البلعوس. فتغيرت بعدها توجهات الحركة، وطالب مشايخها بوقف تجنيد أبناء السويداء وإبقائهم فيها للدفاع عنها وعدم ذهابهم للقتال في مناطق أخرى، كما عملوا على تحييد القوى الأمنية. حاول النظام اعتقال بعض رجال الدين لجس نبض الشارع ومعرفة قدرته واستفزازاً له فكان الرد سريعاً عبر الهجوم على المقرّات الأمنية وإخلاء سبيل من اعتقل. وقال الشيخ البلعوس جملته الشهيرة: «يا فوق الأرض بكرامة يا تحت الأرض بكرامة».

رحبت الطبقات الاجتماعية المختلفة بالعمل الوطني الذي كان يقوده البلعوس، وإن تحفظت بعض الأصوات لعدم إعطاء طابع ديني للحركة ورجالها. رحب البلعوس بهذه الأصوات فأطلق ومن معه على أنفسهم وصف «مشايخ الكرامة»، وحوّل أعلام وشعارات الحركة إلى بيارق أطلقوا عليها تسميات تخص الكرامة، مثل بيارق العز وبيارق الحق وبيارق الكرامة. وأصبحت لحركة مشايخ الكرامة كلمة حقيقية، خرج من خلالها بعض أبناء المحافظة من المؤسسة العسكرية وتوقفوا عن الالتحاق بالخدمة الإلزامية، كما عملوا على منع الضغط العسكري من السويداء على درعا، ومنعوا خروج السلاح من الثكنات، وكذلك عملوا على منع خروج المحاصيل الزراعية إلى خارج المحافظة بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي. اعتبرت هذه الأعمال رسائل تهديد للنظام. ورغم أن البلعوس لم يتدخل في السياسة العامة للبلاد إلا من خلال انتقاد ظلم النظام وعنجهيته والملاحقات الأمنية المحلية، ولكن هذا الأمر لم يرق للقوى الأمنية فعملت على إنهاء الحركة باستهداف الشيخ وحيد بمفخخة أدت إلى مقتله على الفور وإصابة الكثيرين، ثم تفجير ثان أمام المشفى بعد نقل المصابين إليه بحوالي النصف ساعة، راح ضحيته 50 شخصاً معظمهم من رجال الكرامة ومن أفراد عائلاتهم الذين حضروا للاطمئنان عليهم. أدى هذا العمل إلى تراجع دور الحركة وأفول نجمها، واستطاع النظام فرض حضوره مجدداً بالاعتماد على الأجهزة الأمنية والقوى المحلية التي أنشأها ودعمها في المحافظة.

رجال الكرامة

الوضع الاقتصادي

تعيش السويداء، الفقيرة أصلاً والمهمشة، حصاراً اقتصادياً وتجويعاً متعمداً الغرض منه إبقاء الأهالي في دائرة الحاجة والبحث عن لقمة العيش. وبسبب سيطرة الشبيحة وبعض أبناء العائلات المؤيدة تشهد المحافظة حالة من التدهور الأمني وانتشار السلاح وحوادث القتل والسلب والخطف بغرض الحصول على الفدية. وبسبب البطالة ظهرت حالات التعاطي والإدمان بين الشباب.

كما تعيش المحافظة حالة من الغلاء ونقص المواد الأساسية، إذ يلعب تجار الأزمات من بعض أصحاب محلات الجملة والمستودعات دوراً في احتكار المواد لتحقيق أرباح كبيرة على حساب المهمشين واللاجئين. وكذلك ازدهرت تجارة النفط والمحروقات، والتي تتم بحماية وعلم الميليشيات ورجال الأمن الذين حققوا أرباحاً كبيرة من تهريب النفط من القرى الحدودية ومن قلب السويداء وبيعها لداعش وللمناطق المحيطة ولدرعا، وقد تم بيع صهاريج المازوت والبنزين المخصصة للمحافظة أيضاً مما تسبب في أزمة محروقات. كذلك تعاني المحافظة من تراجع البنية التحتية والخدمات العلاجية والدوائية والانقطاع الطويل للكهرباء والماء، مما تسبّب في أعباء إضافية دفعت الكثيرين إلى الهجرة إلى أوربا، في موجة جديدة تذكر بموجة بداية القرن الماضي إلى الأمريكيتين.

                                               *          *          *

هذه، في النهاية، إضاءة بسيطة على ما حدث في السويداء. قد لا تكون أحاطت بمختلف الجوانب لكن دون إغفال مقصود، بل بسبب قلة التفاصيل نتيجة التعتيم على المحافظة. وتبقى هذه الصفحات محاولة لرصد حالها وإخراج قليل مما حدث فيها إلى دائرة الضوء.

رغم ذلك، وباعتراف أبناء السويداء أنفسهم، فإن حراكها الثوري ظل حراكاً ضعيفاً لم يتطور عن التجارب البسيطة والمحاولات الخجولة. وهناك من يصفه بأنه حراك نخبوي تخوضه النخب الفكرية والاجتماعية والعلمية، وهي، في طبيعتها، محاربة من قبل النظام، وأغلبها ينتمي إلى عائلات معارضة للبعث، وبعضهم يقيم خارج سوريا منذ سنوات.