تنظيم الدولة والإعلام.... واقع العمل الصحفيّ في ظلّ داعش

"إنّ الاضطهاد الشنيع الذي يمارسه تنظيم الدولة ضدّ الصحفيين يحرم وسائل الإعلام من تغطية الأحداث بحرّيةٍ في المناطق المحاصرة التي أضحت بمثابة ثقوبٍ سوداء على الصعيد الإعلاميّ"، هذا ما صرّحت به، في وقتٍ سابقٍ، مديرة البرامج في منظمة مراسلون بلا حدود، لوسي موريون. ورغم أن هذا التصريح يصف الواقع إلى أبعد حدٍّ، إلا أنه لا يحيط بكلّ جوانبه المعقدة والمتشعبة وأسبابه المركّبة والمتراكبة.

ففي مدينة دير الزور، كمثالٍ قد يشرح الواقع الإعلاميّ؛ دعا التنظيم الإعلاميين إلى بيعته بعد دخوله المدينة. وبعد أن استجاب البعض دُفع الممتنعون من المستقلين إلى التوقيع على (ضوابط عامّةٍ حول عمل الصحفيين) حدّد التنظيم من خلالها المساحة التي يعملون ضمنها. وكان عددهم آنذاك ثلاثة عشر شخصاً، بين إعلاميٍّ ومصوّرٍ ومتعاونٍ صحفيٍّ، ترك أغلبهم العمل طوعاً بعد اعتقال المصوّر محمد الحامد والإعلاميّ نورس العرفي وإجبارهما على حضور دورةٍ شرعية. ولم يستمرّ سوى عددٍ لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، يشاهَدون اليوم في مواقع القصف وتنفيذ الأحكام برفقة إعلاميّي التنظيم، مبرّرين للأهالي حرّية العمل التي يتمتعون بها بمشاركتهم في تغطية الكثير من المعارك التي خاضها التنظيم، في حين لم يمتلك إعلاميوه ذاتهم الجرأة على تغطيتها. لكن ذلك لم يقنع الكثيرين، الذين لم يروا في هؤلاء الإعلاميين إلا مبايعين سرّاً.

الإعلاميون والوكالات

ينصّ أحد بنود (ضوابط عمل الصحفيين) على السماح بالتصوير والتعامل مع وكالات الأنباء العالمية (رويترز، فرانس برس، أسوشيتدبرس)، ومنع التعامل مع قنوات (العربية والجزيرة وأوينت) بأيّ شكلٍ من الأشكال. لكن الجميع هنا يعرف الغضب الذي صبّه "أمير" الإعلاميين في "الولاية"، أبو أنس المصريّ، على المصوّر محمد الحامد بعد انتشار صورةٍ التقطها لجثةٍ مصلوبةٍ يلهو بجانبها الأطفال، لتبرز إحدى أكبر تناقضات التنظيم. فالصورة تبدو رحيمةً أمام مشاهد ذبح الصحفيين -على سبيل المثال- لكن المصوّر اعتقل إثرها، وبتهمة إخفاء السلاح، لتظهر عياناً الرقابة الذاتية، كما يقال في الصحافة العالمية، التي يجب أن يمارسها الإعلاميون على أنفسهم في ظلّ التنظيم.

وهنا يجب عدم إغفال عاملٍ رئيسيٍّ وهو أن الإعلاميين، بصفتهم فاعلين في الثورة على النظام ومنفعلين بها أصلاً، ولأنهم واقعون أمام قصف وتهديد قوّاته؛ لا يستطيعون تجاوز ظرفهم هذا في أكثر الأحيان، عندما يشكّل التنظيم أهمّ قوّةٍ تحميهم من قوّات الأسد حالياً. هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى فإن الوكالات "لا تأخذ إلا ما تريده"، بحسب أحد الإعلاميين العاملين في الخفاء. والذي يضيف: "لدى محرّريها أسئلةٌ محدّدةٌ توصلهم إلى الخبر أو التقرير الذي يعدّونه، ناهيك عن التقارير الخاصّة بهم بعيداً عن الوكالة. ويعدّ موضوعا تجنيد الأطفال والسبايا أهمّ محورين يبحثون فيهما. وهم، حين يجمعون الشهادات، يكون لديهم تصوّرٌ مسبقٌ يريدون تأكيده، ويناسب قرّاءهم الذين ينتظرون المزيد من صور وحشية التنظيم". وهنا يذكر الإعلاميّ أن محرّراً يعمل لدى وكالةٍ عالميةٍ رفض الاقتناع أن عناصر التنظيم قد يحسنون معاملة السبايا، "فهو يريد شهادةً تؤكّد وحشيتهم التي تظهرها إصداراتهم". وهنا ينزلق الكثير من الإعلاميين، كما الكثير من المتابعين البعيدين، إذ يقارنون عنف التنظيم بعنف النظام، وإجرام هذا بإجرام ذاك. في حين تبدو هذه المقارنة غير عادلةٍ، مع قصف النظام العشوائيّ والغزير بكلّ أنواع الأسلحة، عدا عن امتلاكه الطيران. ويرى أحد الإعلاميين في المدينة أن تصدير التنظيم لعنفه المصوّر جاء للتغطية على عجزه في الإدارة والتخطيط وضحالته وخوائه السياسيّ، لكن الذي حدث -كما يرى الإعلاميّ- هو أن وكالات الأنباء والفضائيات، تماشياً مع المجتمع الدوليّ، كرّست صورة العنف هذه وساعدت في تسويقها، وأهملت الجوانب الأخرى الركيكة في التنظيم الذي لا يعرف إلا العسكرة والإعلام.

الأخبار عن بعد

ينتشر العديد من صحفيي دير الزور، وغيرها، في دول الجوار، بسبب تهديد حياتهم أو منعهم من العمل. وينشرون من هناك الأخبار والمقالات والتقارير عن الداخل، مستعينين بالمعلومات التي يتحصّلون عليها من أصدقائهم ومعارفهم او المتعاونين الإعلاميين، مما يفتح المجال واسعاً أمام الكثير من الشائعات والتحليلات والآراء التي تصبّ في تشويه الخصم. كما حدث منذ مدّةٍ حين تناقلت مواقع إخباريةٌ وصحفٌ سوريةٌ خبراً عن إغلاق التنظيم لمقاهي الإنترنت، حرصاً منه على عدم وصول الأخبار إلى الخارج، وإبقائه على بعض مقاهي المتعاونين معه بشرط مراقبة الزبائن، في حين أن إغلاق تلك المقاهي جاء بسبب عملها أثناء الصلاة، وهو الأمر الذي يمنعه التنظيم عموماً، وقد عادت إلى العمل بعد عدّة أيام. ومما له دلالةٌ في هذا المجال إبداء الكثير من الأهالي ارتياحهم بعد إغلاق مكتب قناة دير الزور في المدينة من قبل التنظيم، ثم إغلاق القناة نهائياً لأسبابٍ تتعلق بها، إذ إنهم يتابعون القناة "لمعرفة أسماء الشهداء فقط"، أما بالنسبة إلى الإعلاميين "فالقناة تشوّه صورة المدينة زيادةً في التشويه، وتكرّس الصورة النمطية المزيّفة المرسومة لها". وبخصوص الفضائيات الأخرى ووكالات الأنباء فإن مجازر النظام وعوَز الأهالي وانقطاع الخدمات تأتي لديهم في المرتبة الثانية بعد أخبار التنظيم، مما دفع ببعض الإعلاميين إلى تبنّي رأي الأخير فيها، فهي "تقف ضد قيام الإسلام الحقّ، أو، في أحسن الأحوال، تقف ضدّ المسلمين". واختار بعضهم الآخر العمل بعيداً عن تلك الوكالات والفضائيات، إذ إنّ الأولوية هي إسقاط النظام، كما يقول أحدهم، وبإسقاطه سيتوقف قتل الأبرياء، وبعدها سيكون الاقتتال بين الساعين إلى السلطة فقط.

نتيجة

من غير الممكن اليوم تنفيذ وقفةٍ احتجاجيةٍ ضدّ حصار التنظيم للأحياء الواقعة تحت سيطرة النظام، كتلك التي سبق أن نظّمها بعض الشباب عند حصار هذه الأحياء من قبل حركة أحرار الشام، قبل تمدّد التنظيم في سوريا، وأسهمت وسائل الإعلام المحلية وقتها في إيصال مطالبها، فاليوم لم يعد مسموحاً لأحدٍ الاعتراض. لكن إفراج التنظيم عن عددٍ من الصحفيين المحليين في أوقاتٍ مختلفةٍ بعد بدء عمليات التحالف، كما في 25-11-2014، ثم السماح للصحفيّ الألمانيّ يورغن تودنهوفر بالتجوّل في أراضي "الخلافة"، وعرض لقائه في قناة الجزيرة (الموجّهة لمحاربة "الدولة"، كما تقول ضوابط التنظيم العامة) على شاشات المكتب الدعويّ في الشوارع الرئيسية، ثم بحث الأمنيين عن تهمٍ لا تخصّ المهنة لاعتقال الإعلاميين؛ كلّ ذلك وغيره يدفع إلى الاعتقاد بأن قادة التنظيم يحاولون استغلال الإعلام المستقلّ بإعطائه حيّزاً للعمل في المرحلة الحالية للترويج لهم، خاصّةً بعد تشكيل التحالف الدوليّ ورفضه من قبل العديد من الإعلاميين المستقلين، أو حتى المناوئين للتنظيم، في دير الزور وخارجها. ولا يتناقض هذا مع التنكيل بالإعلاميين حين نعلم، على سبيل المثال، خوف الأمراء من وصول شكاوى الأهالي إلى قياداتهم. وليس بعيداً عن هذه العوامل يفهم إعلاميون عاملون في الخفاء أحد بنود الضوابط العامة الذي يقول: "هذه الضوابط ليست نهائية. وهي قابلة للتغيير مع الوقت، بحسب الظروف ودرجة تعاون الصحفيين والتزامهم مع إخوانهم في المكاتب الإعلامية".

إنّ ردّ الفعل، الذي يأتي انفعالياً في الغالب، أو متحيّزاً لصالح الظروف أو المصالح، يغلق الباب أمام أيّ بحثٍ عميقٍ يفتش في أساليب التنظيم، بكونها محاولةً من قبل قادته لأخذ مكان الديكتاتور وإلغاء الشعب سياسياً، ويقبل الكثيرون بذلك قدراً.