بعد التضامن مع ضحايا جريمة شارلي ايبدو

سولي أوزل/ كاتبٌ تركيٌّ مختصٌّ في الشؤون الدولية
ترجمة بكر صدقي. عن يومية خبر ترك 14\1\2015

من المحتمل أن تشكّل مجزرة باريس نقطة انعطافٍ في شؤون العالم، تماماً كهجمات الحادي عشر من أيلول، ولكن مع فوارق مهمةٍ أيضاً. ثمّة ما يقارب الإجماع في الرأي أخذ يتشكل حول ربط الجناة بفرع اليمن لتنظيم القاعدة (قاعدة اليمن وشبه الجزيرة العربية). صحيحٌ أن منفّذ الهجوم على المتجر اليهوديّ، المدعو "كوليبالي"، قد أعلن مبايعته لـ"داعش" في شريط فيديو، لكن هذه العلاقة لم تتأكّد بأدلةٍ يقينيةٍ بعد.

كتب الصحفيّ الباكستانيّ الخبير بشؤون جماعات القاعدة أحمد رشيد، في موقع مجلة "نيويورك ريفيو أوف بوكس" الإلكتروني يقول: "إن اتجاه أنظار العالم، في العامين الأخيرين، وبصورةٍ أخصّ منذ سقوط الموصل، نحو تنظيم داعش، قد أفاد الفرع اليمنيّ لمنظمة القاعدة". كذلك نبهت الكاتبة بنار تريملاي، في مقالتها في موقع T-24 الإلكتروني التركيّ، إلى وجوب عدم إهمال مراقبة أنشطة الفرع اليمنيّ المذكور، مشيرةً إلى الفوارق بين منهج عملياتها ومنهج عمليات "داعش"، والتنافس القائم بين المجموعتين الجهاديتين.
ولعل أهمّ الفوارق بين المنظمتين هو تركيز "داعش" على "العدوّ القريب" مقابل مواصلة القاعدة تركيزها على "العدوّ البعيد". وفقاً لأحمد رشيد "يمكن لهجمات باريس أن تدفع الحكومات في الدول الغربية إلى إجراء تغييراتٍ كبيرةٍ في طريقة عملها، تماماً كما أرادت القاعدة من وراء هجومها على البرجين التوأمين لمبنى منظمة التجارة العالمية في نيويورك". ستستمرّ منظمة القاعدة في اليمن في اعتبار تركيع الرأسماليات الغربية هدفاً استراتيجياً لها. أو بالأحرى، دفع دول الغرب إلى ردّات فعلٍ تجعلها تتخلى عن قيمها المؤسّسة التي حصَّلَتها نتيجة تاريخٍ طويلٍ من المعاناة والآلام.
ردّة الــفعل الأميركية على هجمات 11 أيلول تشكلت، في عهد جورج دبليو بوش، على أيدي المحافظين الجدد. وكان الهدف الصريح لمشروعهم هو فرض الهيمنة الأميركية على العالم من جديدٍ بواسطة القوّة العسكرية. فقد أرادوا إظهار أبعاد القوة الأميركية أمام العالم، جنباً إلى جنبٍ مع إنشاء نظامٍ إقليميٍّ جديدٍ في الشرق الأوسط. وكان يتوجّب الحفاظ على مظهرٍ ديموقراطيٍّ في النظام الجديد للشرق الأوسط.
العنصر الآخر الذي برز في تصوّرات المحافظين الجدد هو فكرة دعم "الإسلام المعتدل" في مواجهة الحركات الإسلامية الراديكالية. صحيحٌ أن العلاقات الأميركية الوثيقة مع نظام مبارك في مصر منعتهم من ممارسة ضغوطٍ شديدةٍ عليه، لكن الضغوط الأميركية هي التي فتحت الطريق أمام الإخوان المسلمين لدخول البرلمان بصفة مرشّحين مستقلين.
في تلك الفترة ارتفعت أسهم النموذج التركيّ بسبب حزب العدالة والتنمية ذي الخلفية الإسلامية، الذي سرَّع من خطواته على طريق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبيّ، واختطّ وجهةً نحو ديموقراطيةٍ أكثر انفتاحاً وأكثر احتراماً للقانون. كان لوجهة النظر الأميركية، الداعية إلى دعم الإسلام المعتدل في مواجهة الحركات الراديكالية، نصيبٌ كبيرٌ في تحميل مسؤولية رفض البرلمان التركيّ للمشاركة في غزو العراق، من خلال فتح الحدود أمام قوّات الحلفاء، للمؤسسة العسكرية التركية بدلاً من حكومة حزب العدالة والتنمية؛ كما في ازدراء واشنطن لمعارضي العدالة والتنمية من الأحزاب التركية.
نتذكّر جميعاً أن وزير الخارجية الألمانيّ من حزب الخضر "يوشكا فيشر" كان قد أعلن دعمه التامّ لعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبيّ، في الشروط التي نتجت عن هجمات 11 أيلول. لاقت فكرة النظام الذي يجمع بين الديموقراطية القائمة على دعامتي الليبرالية الممأسسة والتشريع العلمانيّ من جهة، والتفضيلات الثقافية الإسلامية من جهةٍ أخرى، مساندةً دوليةً كبيرةً، إضافةً إلى ما أثارته من فضولٍ معرفي.
الحماسة للـ"نموذج التركيّ"، التي ظهرت بمناسبة ثورات الربيع العربيّ، كانت امتداداً للنظرة نفسها. لكن فشل حركة الإخوان المسلمين في مصر بصورةٍ خاصّة، وإخفاق الحركات الإسلامية عموماً في الحفاظ على مسافةٍ بينها وبين العنف، أدّيا إلى تلاشي تلك النظرة الرومانسية للـ"إسلام المعتدل". ازداد الغموض باطّرادٍ بشأن مفهوم الإسلاميين عن البنية الاجتماعية، وفيما يميّز المعتدلين عن المتشدّدين في فهمهما لموقع الدين في الحياة الاجتماعية، وموقع الفرد -والمرأة بصورةٍ خاصّة- في المجتمع المسلم، وحقوق الأفراد وحرّياتهم.
حدثت جريمة باريس في هذا المناخ. تلقّى النظام الليبراليّ الغربيّ ومفهومه ضربةً كبيرة. ردّة الفعل الأوروبية (وفي مقدمتها فرنسا) ستحدّد أسس نظام المستقبل.