لن نغوص بعيداً في تاريخ اليسار سوى تذكر ادّعائه الدفاع عن مصالح المحرومين. وسنكتفي بمواقفه في العصر الحديث وخلال الحرب الباردة وما أنتجته من حالة استقطاب، حين عبَّر عنه المثقف المشبع بالسياسة، والمناصر لقضايا الشعوب، والمعادي في تكوينه وثقافته للإمبريالية كحالة استعمارية عموماً، وأميركية خصوصاً، فكان تعبيراً مكثفاً عن الصراع الذي ساد وقتها بين الاتحاد السوفياتي وأميركا.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لم يختف المثقف التقدمي بشكل كامل، بل تحول إلى مثقف ليبرالي مناصر للحريات، متخلياً عن الكثير من قيمه إلى درجة الانقلاب عليها لدى كثيرين، فانكشف إلى حد كبير ارتباطه بالسلطة السياسية أكثر منه بقيم التقدم. لكن قلة من المثقفين اليساريين ظلت وفية لارتباطها بالسلطات «التقدمية» وعدائها للإمبريالية، كقضية وسبب مركزي لكافة الشرور والبؤس في العالم، رغم اندهاشها بمظاهر الغرب وقوته.

لم تكن بلادنا بعيدة عن هذه الحالة التي سادت أواخر القرن الماضي وبداية الحالي، خاصة وأن الكثير من أحزابنا مستهلكة للأفكار، أي أنها صدى تيارات عالمية أكثر مما هي نتاجات محلية. فكان انتقال الكثير من المثقفين والأحزاب من الصف الماركسي إلى الليبرالي يشبه تبديل الشكل، فأعلن الكثير منهم تبنيهم للديمقراطية والحريات، دون فهم واستيعاب لا للماركسية ولا لليبرالية، وهي المذهب الجديد الذي اختبأ خلفه الكثيرون. وغيّر البعض أسماء أحزابهم، وكأن تغيير اليافطة كفيل بفهم وتبني الفكر الجديد. ويمكن أن نطلق على هؤلاء الديمقراطيين بحق ديمقراطيّي ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، فهم مع الديمقراطية طالما أنها تخدمهم كوسيلة للوصول إلى السلطة وممارسة دكتاتوريتهم.

مع انطلاق الربيع العربي، وتهمنا هنا الثورة السورية، سارع الكثير من المثقفين إلى تأييدها والعمل مع شبابها والدفاع عن حقها وضرورتها في وجه نظام قلَّ مثيله بين الأنظمة الديكتاتورية، من حيث درجة القمع ووسائل قتل الناس. وخالفت في ذلك فئة من مثقفي اليسار المغرمين بالدكتاتوريات التي يعتقدون أنها تمنع الإمبريالية من تنفيذ مشاريعها. والإمبريالية، وفق تصور هؤلاء، مفهوم مجرد من الزمان والمكان، وتتطلب مواجهتها الوقوف في وجه كل الحركات التي تطالب بحقوق الناس وخاصة بالحريات، لأنها تضعف الصف المعادي للإمبريالية. وتأكيداً من هؤلاء المثقفين لمصداقيتهم فهم يقرّون بوجود بعض الأخطاء والنواقص التي لا بد من تقويمها في الأنظمة التقدمية، ويعترفون بقضايا الحريات والحقوق الأساسية للناس، ولكنهم يؤكدون أنه لا بد من اختيار زمان المطالبة بها بعناية، ولا بد من تحمّل كل الظروف وأشكال القهر أثناء المعركة مع الإمبريالية، وإن تطلب الأمر القضاء على مجموعة كاملة من السكان، بما في ذلك التصفية الجسدية، لأن مطالباتها توظف في معركة قوى الظلام والتطرف.

لا تقتصر موجة اليسار الدكتاتوري على سورية فقط، بل تنتشر في الوطن العربي وأوروبا وأمريكا اللاتينية. وفي كثير من الأحيان نلحظ أنها متركزة حول قضايا تخص منطقتنا، وخاصة مع ظهور الربيع العربي. فمعظم ما كان يُعرف بالأحزاب الشيوعية العربية، والتيارات الناصرية، هم في صف الأسد بمواجهة البشر، لأن نظامه يشكل «بوصلة النضال ضد الإمبريالية» وعلى الرفاق ألا يضيّعوا البوصلة.

ربما يرجع بنا التفكير في جذر المشكلة إلى أن هذا المثقف تربى إما في الأحزاب الشيوعية أو على أطرافها، وهي الأحزاب التي تعتبر غاية ثوراتها الاشتراكية، المنجزة أو المنتظرة، تحقيق دكتاتورية البروليتاريا، والتي اختصرت على مرّ الزمن لتبقى دكتاتورية الزعيم الذي يجسد ويعي مصالح البروليتاريا، وخاصة في منطقتنا لأن هذه الطبقة لم تُشكل بعد، وفق تحليلات اليسار العظيم، بمعنى أنها لم تتشكل كطبقة واعية لمصالحها، فيحضر دور الزعيم الذي يجسد مصالح هذه الطبقة الغائبة، ودور المثقف الذي يضطلع بمهمة نقل الوعي إليها وتثويرها، وبالتالي يشترك الزعيم والمثقف في تجسيد وتثوير الطبقة أو الجماهير. وربما من هنا نفسر موقف الكثير من هؤلاء اليساريين الذين اتخذوا موقف المحذر والناصح والموجه، وعندما لم تلق نصائحهم القيمة صدى بين المسحوقين الذين قرروا الثورة على الظلم، كان الموقف الطبيعي لهذا المثقف والسياسي اليساري هو أن الثورة سُرقت وحرفت عن مسارها المرسوم في الخيال المريض والمليء بكل أشكال العفن التي تحتويها الحياة.

وحدها الحرية ما يعرّي هؤلاء المثقفين المرتبطين بأنظمة القمع ويسمح بحياة كريمة للجميع، بما فيهم منظري الدكتاتورية هؤلاء!