المكوث قليلاً في ديرالزور.. أو الرحيل هرباً من الأزمات وتضاؤل الفرص

من أرشيف المجلة - عدسة أحمد

الدافع الرئيسي لدى الموظف الحكومي محمد للدوام يومياً هو التزوُّد بالكهرباء، بشحن موبايله وموبايل زوجته وموبايل ابنته طالبة الجامعة إضافة إلى ثلاثة مصابيح صينية يحملها جميعاً في حقيبة كتف إلى "الوظيفة" التي أصبحت بلا أي معنى تقريباً، لتفاهة الأعمال التي يطلب منه أحياناً أن ينجزها وتآكل الراتب (20 دولار تقريباً) الذي يقبضه كل شهر.

بالرغم من أن حكومة النظام أجبرت معظم الموظفين النازحين من ديرالزور على العودة، إلا أنها لا تجد -ومع ضآلة الموارد المالية المخصصة لمحافظة ديرالزور- مهمات وأعمال فعلية يؤديها العائدون، فتساهلَ مديرو المؤسسات العامة مع الموظفين وتركوهم وشأنهم. "بكيفك تريد تداوم، تريد لا.. لكن لازم مرة مرتين بالأسبوع أو بالشهر، وحسب المدير تبين لك شوي" يشرح محمد تقاليد الدوام السائدة.

وفضلاً عن "الشحن" يتسلى بسماع آخر الأخبار: "اختفى شوفير قائد المنطقة الشرقية من أسبوع، ولقوا سيارته قدام حديقة طليطلة، الفرقة الرابعة كمشت عناصر من الدفاع الوطني كانوا ينقبون عن الآثار بالخشمة، ويمكن المحافظ الجديد راح يكون أحسن من الكواكبي (المحافظ السابق) المصروع". 

يرى هذا الموظف الذي نجى منزله في حي الجبيلة من التدمير، أنه محظوظ إلى حد ما "ما مات لي أو انسجن لي أحد، وطلعتو الويلاد على تركيا وما خدموا جيش، وهسع يشتغلون ويبعثوا لي اللي يقدرون عليه"، ولهذا لا يزال يستبعد فكرة النزوح أو اللجوء، وعلى الأقل إلى حين تكمل ابنته دراستها الجامعية.

ما يزال عدد سكان مدينة ديرالزور -وفق أعلى التقديرات وبعد ثلاث سنوات تقريباً من سيطرة النظام الكاملة على المدينة- لا يتجاوز 250 ألف. وفي الأسابيع الأخيرة، حملت السفن الصغيرة والعبارات المائية بين ضفتي نهر الفرات مئات العائلات القادمة من منطقة النظام بديرالزور إلى منطقة "قسد". أكمل كثير منها الطريق إلى منطقة المعارضة ثم تركيا. ومن كان منها يمتلك المال الكافي يخطط الآن لاستئناف رحلة اللجوء إلى دول أوربا الغربية. 

عامل واحد يدفع هؤلاء الذين فضلوا البقاء خلال سنوات الحرب السابقة في منطقة النظام على الرحيل عنها، هو عجزه الكامل تقريباً عن تحقيق الحد الأدنى من ظروف العيش الملائمة. فبالنسبة لسليمان وهو مقاول صغير لم يعمل بأي مشروع منذ عام، فإن "الوضع ما عاد ينطاق ولازم الواحد يسافر"، ولهذا بدأ منذ شهر بحذف بعض الصور والمنشورات من صفحته الشخصية بفيسبوك "لأن الناس البرى ما راح يصدقون ليش نشرتو هالصور وقلتو هالكلام، يفكرونا كنا نشبح"، ويعتبر أن عمله متعهداً لإطعام مجموعات بميليشيا "لواء القدس الفلسطيني" غرب ديرالزور، وتشغيله عمَّالاً لاقتلاع السيراميك من المنازل في بعض الأحياء المدمرة والمهجورة مجرد أكاذيب وشائعات "مستعد يحلف عالمصحف" لنفيها، ويبدو عازماً على الرحيل بعد أن باع منزله في حي القصور، ومنزلين آخرين يمتلكهما في دمشق حيث كان يتردد ويقيم أحياناً مع أسرته التي سبقته عبر بيروت إلى اسطنبول، بـ"فيزا كلفتني كثير" من الأموال التي لم يعد يمتلكها في ديرالزور إلا قليلون مثل سليمان.

في العام الأول بعد الثورة، كان بعض المؤيدين يجادل دفاعاً عن النظام بحجة الحفاظ على الاستقرار: الاستقرار الأمني وإن كان قريناً للخوف الدائم من أجهزة الأمن، الاستقرار الاقتصادي ويقصد به الفتات الذي توفره رواتب موظفي القطاع العام في معظم الحالات، والاستقرار النفسي الذي تحققه المسارات المألوفة والمعروفة مسبقاً لحياة أغلبية الناس. تحطَّم كل هذا عاماً بعد آخر، وأزمة بعد أخرى ظلت جميعها بلا حلول، لتتراكم وتُفقد المدافعين عن النظام مبرراتهم، وتسلب المحسوبين عليه امتيازاتهم التي أصبحت بلا معنى تقريباً ما لم يتكيفوا مع الوقائع المتغيرة باستمرار.

فمعرفة شادي الكاميروني قائد لواء القدس في ديرالزور، ليست مفيدة لسليمان إن لم يجدد نفسه أمام قائد الميليشيا بعرض صفقة مربحة ومقنعة، كذلك معرفة سفيان المشعلي مدير فرع الهلال الأحمر؛ في حين يتطلب اكتشاف المحافظ الجديد "الغامض حتى الآن" وقتاً طويلاً بالنسبة لمقاول لم يعد يرى الكثير من المال السائب في المشاريع.