المخابرات السورية في زمن البطالة

تذكرتُ هذا الموضوع بمناسبة اغتيال الصحفي الأردني الممانع ناهض حتر، أمام قصر العدل في عمّان، قبل أيام. فقد كاد الفيسبوك السوري ينسى جحيم حلب المستمرّ ليهتم بحادثة الاغتيال التي يُعتقد أنها تمت على خلفية «إساءة المغدور للذات الإلهية»، أي نفس التهمة التي كان يحاكم بشأنها أمام قضاء بلده. أما سبب اهتمام الفسابكة السوريين فيعود إلى مقالات الرجل في صحيفة الأخبار اللبنانية حيث دأب على تشجيع الأسد على مزيدٍ من قتل السوريين وتشريدهم، وصولاً إلى «نقاءٍ حضاريٍّ» لسوريا التي يحلم بها، بعد إفراغها من فائضٍ ديموغرافيٍّ «غير قابلٍ للتعددية والنموذج الحضاريّ السوريّ» على ما كتب في مقالته الأخيرة التي تسببت في وقف مساهمته في جريدة الممانعة نفسها، بسبب فائض العنصرية فيها المحرجة لأصحابها.

فمنذ انتشار خبر اغتيال الكاتب، بدأ أصحاب صفحات فيسبوك من «المعارضين المحسوبين على النظام الكيماوي» أو القريبين منه أو مدعي «الخط الثالث» الكاذبين، بدورياتٍ راجلةٍ أو مؤللةٍ بحثاً عن ضحايا بين المعارضين، للإمساك بهم متلبسين بالشماتة بمقتل محبوبهم الأردني. إلى درجةٍ يكاد فيها المرء يفترض أن محبّي حتر هؤلاء هم أكثر من ابتهجوا بمقتله، لأنه منحهم قضيةً ضد أعدائهم، واحتمالاً للإمساك بهؤلاء بالجرم المشهود، الأمر الذي من شأنه أن يمنحهم من اللذة ما قد يفوق مقدار تلذذهم بسقوط داريا أو الوعر. أتخيلهم وهم يتنقلون بين صفحات المعارضين، وقلوبهم تخفق بشدة، بانتظار الانقضاض على الفريسة مع العبارة الشهيرة: «والله لأشحطك شحط على فرع الجوية!».

خاب فألهم، ولم يجدوا بين كارهي حتر الكثر من يبرر قتله. لكن ذلك لم يمنعهم من اتهام المعارضين للنظام بالشماتة بمقتل الكاتب العنصريّ الذي يتطابق في نظرته إلى السكان المسلمين مع دونالد ترامب وأمثاله، على رغم «شيوعيته».

هذا ما كانت تفعله الأجهزة الأمنية لنظام الأسد في النصف الثاني من الثمانينات وكامل عقد التسعينات. فبعد قضاء النظام على تمرّد الإخوان المسلمين، وتدمير مدينة حماة وقتل عشرات الآلاف من سكانها، وزجّ عشرات الآلاف من السوريين في السجون والمعتقلات الرهيبة، تم عملياً «تعقيم» المجتمع السوريّ من مجرد التفكير في الاعتراض على النظام. وهكذا جاء وقتٌ تبطلت فيه الأجهزة ومخبروها إلى درجةٍ باتت، وباتوا، يخشون على أنفسهم أن يصرفوا من الخدمة لانتفاء الحاجة إليهم. فالرقابة أصبحت ذاتيةً في مجتمعٍ يحكمه الرعب، يشبه ذاك الذي رسمه جورج أورويل في روايته الخالدة «1984».

في تلك الفترة، وخاصة في التسعينات، أصبحت فروع المخابرات تعتقل حالاتٍ غريبة، المشترك الوحيد بينها أنها غير سياسية؛ تجار مخدرات، دعارة، شرطة فاسدة، عمالاً مصريين قادمين من العراق في طريقهم إلى مصر، منتحلي صفة... إلخ.

«منتحلو الصفة» بالذات أخذوا ينبتون كالفطر وقتها، وشكلوا ظاهرةً بحالها! والمقصود أشخاصٌ يدَّعون أن لهم صفةً رسمية، وفي أغلب الحالات صفة ضابط أمنٍ أو عنصر أمن، بالتوازي مع شيوع تعبير «اعرف مع مين عم تحكي!» في التعاملات الاجتماعية.

فسطوة أجهزة المخابرات على الحياة العامة، وخوف الناس من الوقوع بين أيديها لأتفه الأسباب، كان يدفع بعض النصابين إلى ادّعاء أنهم عناصر أو ضباط أمن، لتحقيق بعض المكاسب أو للتنمر على الناس والاستمتاع بإذلالهم. من المحتمل أن سبب اعتقال هؤلاء لم يكن حماية الناس منهم، بل لأن المكاسب التي يحققونها، بانتحال الصفة، هي من حقّ الأجهزة وعناصرها ومخبريها. أي أن دافع الاعتقال تنافسيّ.

من أطرف تلك الحالات رجلٌ طويل القامة مهيوب الشكل، دأب على ارتداء بزة ضابطٍ في الجيش وعلى كتفيه رتبة عسكرية، كان يرتاد مطاعم حلب فيأكل ويشرب ولا يطالبه أحدٌ بالحساب. حين انكشف أمره واعتقل لدى الأمن السياسيّ، سأله المحقق: «لماذا تفعل هذا؟» فأجابه قائلاً: «لأن شخصيتي ضعيفة».

كان ضباط فروع المخابرات يتعرّضون للتوبيخ لأن تقاريرهم عن عملهم شبه فارغة، فيضغط عليهم رؤساؤهم لتحسين «إنتاجيتهم». ويضغط هؤلاء على شبكة المخبرين الذين يضطرون إلى تقديم تقارير كاذبةٍ أو كيديةٍ بحثاً عن الإنتاجية.

من زاوية النظر هذه يمكن تقديم تفسيرٍ إضافيٍّ لما سمي بـ«ربيع دمشق»، بعد أن قضى حافظ الأسد وتولى ابنه: كان الهدف من إعطاء تطميناتٍ بصدد حرية التعبير هو الكشف على المجتمع السوريّ في ما إذا كانت فيه بقايا حياةٍ أم لا. وإذ خرجت بقايا الأصوات المعارضة تعبّر عن نفسها، بدأت حملة الاعتقالات في أيلول 2001، وانتهى، بذلك، الربيع المزعوم.