المحافظة على أقل القليل من عبق الماضي.. هكذا يقيم أهالي داريا أعراسهم في إدلب

تعبيرية لعراضة شامية من الإنترنت

في إدلب، حيث الملجأ الأخير، يسعى أبناء مدينة داريا لإضفاء نكهتهم الخاصة على أعراسهم، بغية استعادة لحظات من الفرح الذي غاب عن المدينة منذ سبع سنوات.

مع أنها لم تتمكن من حضور حفل زفافه البسيط الذي أقامه في إدلب، إلا أن والدة محمود (الدارانية العتيقة) أرسلت له مقاطع لا تحصى من (الزلغوطة) الشامية، فرحاً بزفاف ابنها البكر الذي حرمت منه لأكثر من خمس سنوات. لم يتمكن محمود من إقامة عرس كبير مستعيضاً بحفلة (أهلية بمحلية) في بيته بمدينة إدلب. وعلى ضوء الكهرباء المصحوبة بهدير المولدة الكبيرة في ساحة بيت عربي، اجتمع ثلة من الشبان، أغلبهم من مدينة داريا، تحت أغصان ليمونة كبيرة حول العريس الذي يطفح (شبوبية). كان الجو مرحاً على الرغم من صعوبة الزواج بعيداً عن الأهل ومعظم الأصحاب والمعارف؛ فقد نزح 400 ألف نسمة كانوا يقطنون مدينة داريا، قبل الحملة الأخيرة نهايات 2012، إلى معظم بلدان الدنيا. قسم بسيط منهم ممن كانوا محاصرين في المدينة لأربع سنوات قدِموا إلى إدلب، والباقون توزعوا كخيوط العنكبوت داخل وخارج سورية، حيث امتزج معظمهم مع مجتمعات عديدة احتوتهم في تغريبتهم الكبيرة.

فتح محمود هاتفه النقال لتصله رسائل صوتية عبر الواتس آب. كان صوت أمه، تُردّد «أويها عاللّعْلَعي ع اللّعْلَعـي أويها يا صـبايا تجمّـعي، أويها يا ليل طول طـول، أويها ويا شمس لا تطلعي، لي لي لي لي ليش».

 مهر وتلبيسة

تتعدد نقاط الاختلاف في التفاصيل بين تقاليد الأعراس التي كانت داريا تتّبعها سابقاً، وبين الواقع الحالي لها، لكنها لا تزال مشتركة في العناوين الكبيرة.

 فالتلبيسة وتأمين جهاز العروس (صرة الخطيبة) والمهر لا تزال جميعها موجودة في أعراس الديارنة في إدلب، مع فارق واضح في المقدار الذي كان كبيراً (أيام زمان).

كانت كفا الجدة أم حسين ترتعشان وهي تتحدث عن عادات داريا القديمة في المهر وتقارن بينها وبين العادات الجديدة المستحدثة في إدلب. زوّجت أم حسين ثلاثة من أبنائها الذكور قبل الثورة في داريا «العرس كان كبير، يا سيدي أعراسنا من زمان ما كانت بسيطة، المهر وصرة الخطيبة وتلبيسة الذهب كانت تكلف أهل العريس أراضي كاملة، يبيعوها حتى يقدروا يجوزوا واحد من الولاد»، أما ابنها الرابع فقد زوجته في إدلب، وروت لنا «جهزت العروس من الشام، عملتلا حفلة نسوان هونيك، بس هون يا حسرة ما فرحت بابني متل أخواتو الباقيين، لا حفلة ولا عراضة ولا مولد. سفرة عريس فيها لحم مشوي وفواكه ومشينا الحال».

كانت أم حسين قد خطبت لابنها الأصغر حسان من دمشق، على أن يُقام العرس في إدلب حيث نزح، وتم عقد القران في اتصال على الواتس آب، «زواج على التلفون بحضور والد العروس والمأذون والشهود!»، قالت أم حسين بعد أن ضربت يدها بالأخرى. وتم الاتفاق على مهر «مقدمه 200 ألف ليرة، ومؤخره 200 ألف ليرة، مع صرة خطيبة ب 150 ألفاً». هذا هو المبلغ المترتب لزواج حسان، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المهر غير مقبوض. قديماً، توضح أم حسين -التي ملأت التجاعيد وجهها بعد تجاوزها ال 65 سنة-«دفع أحد إخوته مبلغ 500 ألف ليرة مقدم و 400 مؤخر، مع صرة خطيبة تجاوزت 150 ألفاً، إضافة لتلبيسة ذهب مؤلفة من حابس ومحبس وخاتم و طوق و 3 فرطات و مبرومة». ومع مقارنة قيمة الليرة اليوم مع ليرة أمس، يبدو الفارق هائلاً بين المهرين.

لا عرس بدون صرة ملبس

بينما يشدو المنشدون الابتهالات والموشحات الدينية، كان «لؤي» ابن مدينة داريا مصموداً على (الأسكي)، وهو يوزع ابتساماته بفرح ظاهر على الحضور الذين ضجت بهم صالة (البطل) في مدينة إدلب. ومع تصاعد وتيرة الموشحات، التي يعتبرها أهل داريا ركيزة أساسية لأي عرس كانوا يقيمونه في مدينتهم قبل التغريبة، بدأ معارف العريس بتوزيع الضيافة.

غابت عن عرس لؤي البوظة الشامية بالفستق، إضافة لصرر الملبس فضية اللون التي يتذكرها لؤي بنوع من الحنين، إذ كانت توزّع على (صينيات) كبيرة في نهاية الحفل، وتحديداً بعد الترنيمة التي تعتبر لازمة لكل مولد «وتوالت بشرى الهواتف أن قد ولد المصطفى وحق الهناء».

لم يحالف الحظ العشرات من أقران لؤي في الحصول على فرح مماثل. لكن من تبقّى من شبان داريا في محافظة إدلب، يطمحون لإعادة التقاليد القديمة التي كانت الأعراس تقوم عليها قبل الحرب. إذ يأمل «أحمد» في إقامة حفل زفافه مع فرقتي مولد وعراضة، إضافة لتوزيع الضيافة القديمة. «لا عرس بدون ملبس»، يشدّد أحمد، بينما دمعت عيناه وهو يتذكر أفراح داريا في الأيام الخالية، فأفراح اليوم لم ولن ترقى لأفراح الأمس. الأمس الذي لايزال «محفوراً في الذاكرة حتى القبر».