الماء البارد في زمن الحرب

معرة حرمة - ريف إدلب الجنوبي - خاص عين المدينة

يعيش سكان المناطق المحرّرة حالةً إنسانيةً صعبةً بسبب تضييق النظام بقطع الكهرباء والماء والمواد التموينية وحتى الطبية عن المناطق الخارجة عن سيطرته. وبسبب قطع الكهرباء أصبح من الرفاهية أن تحصل على ماءٍ باردٍ في الكثير من المدن والبلدات، وصارت المشروبات الباردة حكراً على الميسورين.

معاناة الحصول على الماء البارد
انعدمت الكثير من مقوّمات الحياة حتى اعتاد الناس على العيش من دونها، على الرغم من الحاجة الملحة إلى بعضها. وأصبح من الصعب تحصيل ثمن زجاجة الماء البارد في ظلّ نسبة البطالة العالية وانخفاض الأجور وانهيار الليرة. وزاد ارتفاع درجات الحرارة -التي تجاوزت الأربعين درجةً في بعض أيام هذا الصيف- من معاناة الناس. كما زاد الغلاء الكبير في أسعار المياه المبرّدة الطين بلة، وأضاف إلى أعباء حياتهم الكثيرة هماً آخر هو البحث اليوميّ عن لوح «البوظ» (الثلج) الذي وصل سعره في بعض الأيام إلى 1500 ليرة، أي ما يعادل 3 دولاراتٍ أميركية، وهذا رقمٌ كبيرٌ في بلدٍ لا يزيد فيه الأجر اليوميّ للموظف أو العامل على دولارين.

عبد الرحمن العبيد (52 عاماً، من ريف حماة الشماليّ) قال لـ«عين المدينة»: «في رمضان أكبر همومي هو تأمين الماء البارد. في السابق كنا نفكر ما الذي ستحويه مائدة الإفطار من طعام، أما الآن فأصبح تفكيرنا ينحصر في هل سنومّن ماءاً بارداً هذا اليوم أم لا؟ بعد ظهر كلّ يومٍ تبدأ رحلتي للبحث عن لوح بوظ».

ثمانية قتلى بسبب لوح بوظ
كثيراً ما يحصل شجارٌ بين المشترين والبائعين بسبب جشع الأخيرين واستغلالهم ارتفاع درجات الحرارة ليرفعوا سعر لوح البوظ عدة أضعاف، وفي بعض الأحيان تحصل مشادّاتٌ لفظيةٌ بين المشترين أنفسهم نتيجة الازدحام حول البائع. أصبح هذا المشهد مألوفاً للأسف، لكن غير المألوف أن يتطور الشجار ليصبح بين أهالي بلدتين ويسقط ثلاثة قتلى و12 جريحاً. هذا ما حصل في بلدة البارة بريف إدلب الجنوبيّ، عندما تدافع رجلان أحدهما من أهالي البلدة والآخر من بلدة مورك بريف حماة أمام بائع البوظ، ليتطور التدافع إلى شجارٍ كبيرٍ وتبادلٍ لإطلاق النار، انتهى بعددٍ من القتلى والجرحى وخروج نازحي مورك من البلدة. وفي ذلك اليوم قام النظام باستهداف البارة بالبراميل والصواريخ بسبب دخول عددٍ كبيرٍ من الثوار لفضّ الاشتباك بين المتشاجرين، فسقط خمسة شهداء من المدنيين من البلدة بالقصف، وشيّع الأهالي في اليوم التالي ثماني جنائز.

مصدر دخل
في ظلّ النقص الكبير في فرص العمل وجد الكثير من الشباب في تجارة البوظ وسيلةً لكسب الرزق وتأمين مصدر دخل، فمتوسط دخل بائع البوظ يتراوح بين الـ3000 و5000 ليرةٍ في اليوم، وصارت الشوارع والأزقة ومراكز القرى والبلدات تشهد وجوداً دائماً للعاملين في هذه المهنة.

يقول عبد المنعم أبو أحمد (39 عاماً): «في كلّ صيفٍ، منذ ثلاث سنوات، أعمل ببيع الثلج في ريف إدلب الجنوبيّ. يتراوح سعر القالب بين 600 و1500 ليرة، ويزداد السعر مع ارتفاع درجات الحرارة. ويبلغ وزن القالب الواحد 6 كغ. يؤمّن بيع الثلج دخلاً جيداً، وهو عملٌ مريحٌ ولا يحتاج إلى رأس مالٍ كبير». ويتابع: «يلقى بيع الثلج إقبالاً جيداً من الأهالي ومن أصحاب محلات اللحوم الذين يشترونه بشكلٍ كبيرٍ لحفظ بضاعتهم».

معامل البوظ
جعلت جملةٌ من العوامل من صناعة البوظ عملاً مربحاً؛ أهمها انقطاع الكهرباء الحكومية وارتفاع أسعار بدائلها، وانتشار المخيمات غير المخدّمة بالتيار الكهربائيّ في الشمال السوريّ، ووجود كثافةٍ سكانيةٍ كبيرةٍ في الأرياف الشمالية لإدلب، ما دفع المستثمرين وأصحاب الأموال إلى إنشاء عشرات المعامل، التي تتراوح كلفة الواحد منها بين 10 و15 ألف دولار، وغالبيتها من الماركات القديمة نصف الآلية.

محمد جراح، صاحب أحد هذه المعامل، قال لـ«عين المدينة»: «نبيع غالبية المنتج لتجارٍ يبيعونه بدورهم في المخيمات والقرى في ريف إدلب. يتراوح إنتاجنا بين 5 و20 طن بحسب حرارة الجو. للعمل صعوباتٌ كبيرةٌ أهمها القصف، فتجمع السيارات للتحميل يعرّضنا للخطر لأن طائرات الاستطلاع ترصد التجمعات، بالإضافة إلى صعوبة تأمين الملح الخاصّ للمعمل، ولذلك ترتفع الأسعار في بعض الأيام».

أسهمت معامل البوظ في إيجاد فرص عملٍ للكثير من الشباب الذين يعانون الأمرّين لتأمين دخل، وخففت من صعوبة الحصول على الماء البارد، رغم ارتفاع الثمن في كثيرٍ من الأحيان. ولكنها حلولٌ تبقى قاصرةً ومكلفةً للإنسان الصابر والمتمسك بالأرض رغم الثمن الكبير الذي يدفعه.