اللعب ببنود "الهدنة": الصـراع يحتدم بين عناصر المربّع التشبـيحيّ في حمص

ساحة الساعة في حمص

عبيدة الحمصي

تدخل مدينة حمص منعطفاً حاسماً على الصعيد الأمنيّ، بعد توارد أنباءٍ مؤكدةٍ من مصادر داخل جيش النظام عن انقساماتٍ كبيرةٍ بين أربعة أطرافٍ أساسيةٍ تولت مهمة تدمير أحياء حمص الثائرة وإبادة وتهجير أهلها، منذ اندلاع الثورة السورية في آذار عام 2011.

الفروع الأمنية

تعدّ الفروع الأمنية (السياسية والعسكرية) أقوى الجهات المسيطرة على المدينة. وتتمتع بصلاحياتٍ واسعة. وتعدّ العقل المدبر لكل العملــــيات العســــكرية والحمـــلات التشبـــــيحية. وهي الســـــلطة التنفيذية الأعلى التي تضرب بيدٍ من حديدٍ في المدينة، وتشرف على عمليات اعـــــتقال وتعــــــذيب المدنيـــــين. وتحوّلت مراكزها ومقرّاتها الأساســـــية وأقبيتها إلى معتقلاتٍ كبيرةٍ أشهرها بطشاً فرع الأمن السياسيّ في حيّ الإنشاءات الراقي المــــجاور لحي بابا عمرو المدمّر. وتتسع زنازين هذا الفرع الفردية والجماعية إلى نحو 1000 سجينٍ يحشرون في زنازين ضيقةٍ ومعتمةٍ وضعيفة التهوية، تعجّ بالرطوبة والأمراض. وكذلك مقرّ فرع الشرطة بمركز المدينة، والذي انسحب منه عناصره منذ أكثر من عامٍ ونصف، ثم تمكنوا من استعادته منذ نحو 7 أشهر في الحملة العسكرية على حيّ الخالدية.

جيش النظام

ويأتي جيش النظام في المرتبة الثانية من حيث القوّة، فهو الأكثر عدداً وعتاداً. وما زال السنّة والمسيحيون يشكلون نسبة 25% من بنيته بحسب تقديرات الثوار، والنسبة الباقية الأكبر تشكلها عناصر من الطائفة العلوية. وتتولى ميليشيات جيش الأسد مهمة نصب الحواجز والتمترس بسلاحها الخفيف والثقيل، وتقطيع أوصال المدينة وتقسيمها إلى كانتونات، لتسهيل أية مهمةٍ عسكريةٍ تقضي باجتياحٍ عسكريٍّ لأحد الأحياء، أو حملات دهمٍ تعسفيةٍ لترهيب الأهالي ونهب الممتلكات ومحتويات المنازل. كما تقع على عاتق تلك الميليشيات التابعة للجيش النظاميّ مهمة القصف اليوميّ الممنهج لأحياء حمص المحاصرة، التي تشمل (باب الدريب، باب هود، جورة الشياح، الحميدية، بستان الديوان، السوق التجاري القديم والجديد، جب الجندلي، القصور، حي الورشة، الصفصافة، وادي السايح)، والتي تمتدّ على مساحة 5 كيلو متر مربع، 90 % منها مدمّر بالكامل.

الدفاع الوطنيّ

ويأتي في المرتبة الثالثة ما يسمّى "جيش الدفاع الوطنيّ"، الذي أسسه رأس النظام بشار الأسد في حزيران عام 2013 بوصفةٍ إيرانية، بعد أن نجحت تلك التجربة في وأد الثورة الخضراء هناك عام 2009. ويتكوّن عناصره من مدنيين وموظفين حكوميين وطلاب جامعاتٍ وعاطلين عن العمل من الرجال والنساء والمراهقين. وكلهم من سكان الأحياء العلوية الموالية للنظام. ويتوزّعون على شكل مفارز جعلت من الساحات العامة داخل الأحياء الموالية مقرّاتٍ لها. وتنطلق مجموعاتٌ منهم بأوامر من الفروع الأمنية لشنّ غزواتٍ بربريةٍ على أحياء (الشماس، كرم الشامي، الميدان، المحطة، الإنشاءات، الغوطة)، وهي أحياءٌ معارضةٌ لحكم الأسد ولكنها لم تدخل على خطّ الثورة المسلحة بشكلٍ كبير، بل تحوّلت إلى "أحياءٍ آمنة" تؤوي عشرات آلاف النازحين، وتسيطر عليها قوات النظام. ويتولى عناصر "جيــــش الدفاع الوطـــــني" مهمات الدعم والمساندة إن اقتضت الضرورة، خصوصاً في الاشتباكات التي يشعر فيها الجيش النظامي بضعفٍ أو تراجعٍ في إحدى الجبهات الساخنة. وقد تورّطت عناصر "جيش الدفاع" في ارتكاب مجازر طائفيةٍ مروّعةٍ بحق المدنيين في حيّ باب السباع منذ 14 شهراً، وقبلها في حيّ كرم الزيتون، ما أدى إلى تهجيرٍ كاملٍ لسكان هذين الحيين.

ميليشيات الشبيحة

وأخيراً  تأتي مجموعات "الشبيحة". وهي مجموعاتٌ من المجرمين المطلق سراحهم والمرتزقة والعاطلين عن العمل الذين لم يكملوا تعليمهم. ومن بينهم من تسرّب من الخدمة الإلزامية في الجيش. ومنهم موظفون حكوميون يحترفون أعمال التشبيح بعد دوامهم الوظيفيّ. وجميعهم من العائلات العلوية المسحوقة والفقيرة، التي ليس لها دعمٌ عائليٌّ في الأمن أو الجيش. وهم مشحونون طائفياً وغرائزياً بشكلٍ كبير. ويمارسون القتل والتنكيل الممنهج بأهالي حمص. ولا يخضعون لأية أوامر عليا، إذ تتصف مجموعاتهم التشبيحية بعدم الانضباط. وكثيراً ما يصطدمون مع قوّات النظام والأمن التي يتبعون لها شكلياً، بسبب اندفاعهم الجنونيّ نحو الأحياء الآمنة دون اتخاذ إجراءاتٍ احترازيةٍ لتفادي تعرّضهم للتصوير أثناء غزواتهم البربرية واقتحام بيوت المدنيين. كما تنشب مشاجراتٌ كبيرةٌ تصل إلى حدّ التهديد بالقتل وإشهار السلاح حين تأتي لحظة المحاصصة على الغنائم المسروقة من المنازل المدمّرة أو الأحياء المستباحة.
تشكل تلك المكوّنات الأربعة قوةً وحشيةً وقمعيةً ضاربة. وهي التي تسيطر على مدينة حمص وأحيائها. وأسهمت في تهجير أكثر من مليون نسمةٍ من السكان إلى خارج المدينة. ويبلغ عدد هذه القوى مجتــــمعةً نحو 50 ألف عنصر، يملكون السلاح الثقيل من دباباتٍ ومدافع وقواذف صواريخ، ويتوزّعون حول الأحياء العلوية الموالية لتحصينها وحمايتها، ولشنّ عمليات قصفٍ على الأحياء الثائرة.

من حمص القديمة | عدسة شاب حمصي

من حمص القديمة | عدسة شاب حمصي

صراع الوحوش

والملفت في الأمر هو التـــخلخل الواضح بين تلك القوى من جهة التنسيق العملياتيّ والعسكريّ، وعلى صعيد الأهداف داخل مدينة حمص أيضاً. وظهرت تلك الخلخلة في كثيرٍ من المناسبات، أبرزها الصراع الذي نشب بين مجموعات الشبيحة وبين ضباطٍ من الجيش في الأحياء الموالية بسبب مقتل أكثر من 130 عنصراً في تفجير سيارةٍ مفخخةٍ مؤخراً بساحة حيّ العباسية الموالي والمتداخل مع حي البياضة الثائر، الذي تعرّض للتدمير الكامل، ونزح كلّ سكانه جرّاء القصف المتواصل منذ نحو عام. وكان سبب الصراع هو اتهام الشبيحة لبعض الضباط المشرفين على الحاجز بالتواطؤ وتلقي الرشوة مقابل السماح للثوّار بإدخال المفخخة إلى تلك الساحة التي يتجمع فيها الشبيحة. وإثر ذلك اعتقلت قوّات الأمن ضابطين من رتبٍ متوسطةٍ كانا يشرفان على تأمين تلك الساحة، وذلك لامتصاص غضب الشبيحة وتفادي ما قد ينجم عنهم من إفسادٍ للخطط والمعارك.

إسقاط الهدنة

وحدث صراعٌ كبيرٌ بين ضباطٍ في الجيش من حيّ الزهراء وآخرين من حيّ عكرمة منذ نحو أسبوعين. ونشب الصراع بينهم بعد تقدم الثوّار في حيّ جب الجندلي، وتمكنهم من تفجير سيارةٍ مفخخةٍ قتلت أكثر من 50 من عناصر الجيش والشبيحة معظمهم من حيّ عكرمة. إلا أن الحدث الأبرز الذي أظهر تباين الأهداف بين تلك المجموعات والميليشيات التي تحتلّ حمص هو إعلان الهدنة بين الثوّار، بقيادة الجبهة الإسلامية، وبين النظام. والتي تضمنت من بين بنودها خروجاً آمناً لأكثر من 2400 مقاتلٍ من الثوّار في حمص القديمة، مقابل الإفراج عن ضابطٍ روسيٍّ و20 مقاتلاً إيرانياً. وهذان البندان هما اللذان أثارا غضب الشبيحة، الذين هدّدوا شخصياتٍ أمنيةٍ مشاركةٍ في التفاوض مع الثوّار بالتصفية إذا لم يسقطوا هذين البندين، إذ اعتبروهما إهانةً للطائفة التي تقاتل من أجل النظام الذي لم يسعَ للإفراج عن المئات من أفرادها الذين تعرّضوا للأسر. كما يرى قادة ميليشيات الشبيحة أن "الهدنة" سوف تغلق باب مكاسبٍ واسعٍ لهم، لأنها ستؤدّي إلى توقف العمليات العسكرية. وبالتالي فإن الهدوء والأمن على الجبهات في حمص سوف يؤدّي بدوره إلى توقف عمليات النهب والابتزاز والخطف اليوميّ التي يمارسونها.
وعلى الرغم من تباين الأهداف المنفعية بين الأذرع الأسدية الأربعة في حمص، إلا أنها لم تختلف لحظةً واحدةً على إبادة المدينــــة وتدمـــــيرها بالكامل، والتنكيل بمن بقي من سكـــانها. فالصراع بينهم كصراع الذئاب حول فريسةٍ مهشمةٍ اشتركوا جميعهم في الانقضـــاض عليها، واختلفوا في نهش لحمها.