الشاهد: رواية معتقلٍ عن محكمة الميدان العسكريّة ومحكمة مكافحة الإرهاب

شاهدُنا الطبيب ملازمٌ مجنّدٌ كان يقضي خدمته الإلزامية عندما اعتُقل وبعض الضباط في نهاية الشهر الثالث من 2011 بتهمة "مؤامرة بقصد ارتكاب أعمال إرهاب". وتنقّل، خلال أكثر من ثلاث سنواتٍ، بين الفروع الأمنية والقضاء العسكريّ وسجن صيدنايا. وعاصر استحضار النظام للمحكمة الميدانية بعد إلغاء قانون الطوارئ، واستحداث محكمة الإرهاب التي حكمت عليه بالسجن لمدّة 15 عاماً.

يتحدث الشاهد عن أشهر اعتقاله الأولى: "بعد شهرين من الجحيم في المخابرات الجوية تمّ عرضنا على النيابة العامة العسكرية التي أصدرت في حقنا مذكرة توقيفٍ في سجن صيدنايا لصالح القضاء العسكريّ. وبعد 70 يوماً تمّ عرضنا على قاضي التحقيق العسكريّ الذي أمر بإحالتنا إلى المحكمة العسكرية. وبعد أكثر من أربعة أشهرٍ كانت جلسة محاكمتنا الأولى".

 

أُنشئت محكمة الميدان العسكرية بالمرسوم التشريعيّ /109/ لعام 1967، لتختصّ بالجرائم المرتكبة أثناء الحرب وفي العمليات العسكرية التي يقرّها وزير الدفاع. ثم أضاف الأسد الأب إلى تخصّصها أربع كلمات: أو "عند حدوث اضطراباتٍ داخلية"، بالمرسوم التشريعيّ /32/ لعام 1980، لتختصّ بذلك بالمدنيين أيضاً.

لم يأتِ أحدٌ على ذكر المحكمة الميدانية في الأشهر الأولى للثورة. لكن شاهدنا يبيّن ظهورها لأوّل مرّةٍ في خريف 2011: "أثناء جلسات المحاكمة، وتحديداً في أيلول، تمّ تحويل قسمٍ من الضباط الموقوفين معنا في البناء الأبيض في سجن صيدنايا لصالح القضاء العسكريّ، إلى محكمة الميدان العسكرية. وتمّ نقلهم إلى البناء الأحمر الذي أصبح السجن العسكريّ الأول، في حين أصبح سجن تدمر هو العسكريّ الثاني، والبالوني هو الثالث. أمام المحكمة الميدانية لا يحقّ للمتهم توكيل محامٍ، عكس القضاء العسكريّ. وأحكامها مبرمةٌ غير قابلةٍ للطعن أو للاستئناف. وقُضاتها يأخذون بأقصى الأحكام، فإما البراءة أو الجرم الأعلى".

تبادل المعلومات

"كنا نلتقي مع سجناء البناء الأحمر أثناء اقتيادنا إلى المحاكمات في شاحنة برّاد، ونتبادل أثناء الطريق الأسماء والتهم لعل أحداً منا يخرج قبل الآخر ويطمئن أهله. ومن الأحاديث عرفنا مثلاً أن رئيس المحكمة الميدانية هو اللواء الشيخ جابر الخرفان، وأن محكمة ميدانٍ أخرى تمّ إنشاؤها في فرع الشرطة العسكرية في القابون أيضاً، وأن الأولى تمّ نقلها إلى المربع الأمنيّ في كفر سوسة. ومع مضيّ الأيام في صيدنايا استطعنا اختراق بعض العناصر بالمال [كان واحدٌ منهم فقط متعاطفاً معنا ويساعدنا بالمجان] ليزوّدونا بالأخبار، حتى أن أحدهم هرّب لنا راديو".

ضبّاط المحاكم الميدانية:

  • اللواء الشيخ جابر الخرفان، مدير إدارة التعبئة ورئيس المحكمة الميدانية الأولى.
  • اللواء حيدر توفيق حيدر، مدير إدارة المساحة العسكرية ونائب رئيس المحكمة الميدانية الأولى.
  • العميد القاضي محمد حسن كنجو، رئيس النيابة العسكرية العامة. وهو المسؤول عن جميع الإعدامات الميدانية العسكرية.
  • اللواء محمد رجب، قائد الشرطة العسكرية ورئيس المحكمة الميدانية الثانية.
  • العميد أديب سمندر، نائب رئيس المحكمة الميدانية الثانية ورئيس فرع الشرطة العسكرية الثانية بدمشق.
  • العميد جمال عباس، رئيس فرع التحقيق وقسم السجون بدمشق.
  • العميد أديب قنوع، من فرع الشرطة العسكرية بدمشق.
  • العميد سمير نظام، رئيس سجن صيدنايا العسكري.

 

محاكماتٌ فرديةٌ وجماعية

"ضباطٌ كُثرٌ كانوا معنا في البناء الأبيض تمّ تحويلهم إلى المحكمة الميدانية، بعضهم تمّ إعدامه وبعضهم خرج بعفو. ومنهم الملازم أوّل رعد حمدان من دير الزور الذي اعتُقل بتهمة إضعاف الشعور القوميّ في بداية الثورة، وأخلى القضاء العسكريّ سبيله بعد شهرين تقريباً. ليعاود حاجز البانوراما في دير الزور اعتقاله في آب 2011 بتهمة محاولة الانشقاق، وتحويله إلى المحكمة الميدانية التي حكمت عليه بالسجن لخمس سنوات. وخرج بعد عامٍ ونصفٍ بعفوٍ لينشقّ وينضمّ إلى الجيش الحرّ بدير الزور، لكن داعش قامت بتصفيته فور سيطرتها على المنطقة الشرقية.

وفضلاً عن الأفراد كانت هناك محاكماتٌ لمجموعاتٍ كمجموعة الفرقة الثالثة، وهي في حدود 23 بين ضابطٍ وصفّ ضابطٍ ومجند، اعتقلوا بمقرّ الفرقة، في محاولة انشقاقٍ جماعيٍّ، قبيل تحرّكها إلى دير الزور في آب 2011، وتراوحت أحكامهم من 7 إلى 12 عام سجن. ومجموعة اللواء 137 ومطار دير الزور العسكريّ، وهم في حدود 13 ضابطاً وصفّ ضابط. وأضخم تلك المجموعات هي مجموعة الـ401، وسمّيت كذلك لأنها ضمّت 401 أغلبيتهم طلاب ضباطٍ من جميع المراحل في الكلية الحربية بحمص، قضى قسمٌ كبيرٌ منهم في الفروع الأمنية وفي سجن صيدنايا تحت التعذيب".

تعذيبٌ حتى الموت

"في بداية الأمر كان التعذيب بالخيزرانة أو بخرطوم المياه. ثم تطوّر ليصبح بقطعةٍ من إطار سيارةٍ مقصوصةٍ بشكلٍ طوليّ. ثم ظهر "الدكتور"، وهو أنبوب التمديدات الصحية البلاستيكي الأخضر، وتطوّر لاحقاً ليضعوا في داخله سيخ حديد. وحين لم يعد يشفي غليلهم استخدموا أنابيب المياه المعدنية، الأمر الذي يفسّر حالات الموت الكثيرة تحت التعذيب.

من يمُت تحت التعذيب في الفروع الأمنية يتمّ تحويله إلى مشفى الـ601، وإلى مشفى تشرين العسكريّ لمن قضى تحت التعذيب في البناء الأحمر لسجن صيدنايا. كانوا يضعون الجثث بيننا حين يقتادونا إلى المحكمة أو إلى المشفى بغرض العلاج، وكنا نرى جثثاً متفسخةً في نظارة المشفى".

تنفيذ أحكام الإعدام

"في البداية لم نكن ندرك ما يجري إلى أن استرقنا النظر من ثقوبٍ في صفائح الحديد التي تغطي النوافذ، ثم تابعنا العملية التي كانت تتمّ مرّةً أو مرّتين في الأسبوع. في البدايات كانت شاحنة برّادٍ تحضر المحكومين بالإعدام، ثم -مع ازدياد الأعداد- أصبحت حافلة. في يوم الإعدام يستنفر السجن وتنتشر عناصر ترتدي اللباس المدنيّ على السور يراقبون النوافذ للتأكد من عدم رؤية المساجين لما يجري. تبدأ الإعدامات في الثالثة فجراً، في قبو البناء الأبيض لسجن صيدنايا، وتنتهي عند بزوغ الضوء بسماعنا وقع تكديس التوابيت. وبعد فترةٍ استطعنا رؤية العناصر وهم يحمّلون التوابيت في شاحنة إنتر تأخذ الجثث إلى مكانٍ مجهول".

محاكمة الشاهد

"بعد الجلسة الأولى كانت هناك سبع جلساتٍ، ما بين جلسة استماع ادعاءٍ ودفاعٍ وجلسات استمهال. في كلّ جلسةٍ كان يتمّ اقتيادنا مكبّلين في شاحنة البرّاد إلى الشرطة العسكرية في القابون، وفي اليوم التالي إلى سجن البالوني في حمص، لنُعرض في اليوم التالي على القاضي. ونعود بالعكس إلى البالوني ومن ثمّ الشرطة العسكرية ومنها إلى صيدنايا. خمسة أيامٍ من الإذلال لنحضر جلسة محاكمة.

بعد تحويل رفاقنا إلى محكمة الميدان العسكرية بقي من مجموعتنا أربعة ضباطٍ فقط ممن يحاكمون أمام القضاء العسكريّ. وعند جلسة الحكم، في خريف 2012، كان المقدّم معاون رئيس المحكمة العسكرية قد انشقّ، فتأجل النطق بالحكم لمدة أربعين يوماً ريثما يعيّن بديلٌ له. وحين ذهبنا إلى الجلسة المقرّرة تمّ تحويلنا إلى محكمة الإرهاب المشكّلة حديثاً".

إثر اندلاع الثورة تـمّ رفـع حالـة الطـوارئ وإلغـاء محكمـة أمـن الدولـة العليـا، بتاريـخ 21 نيسـان. وتمّـت الاسـتعاضة عـن القانـون المذكـور وقضـائه بقانـون مكافحـة الإرهـاب وإنشـاء محكمـة "مكافحـة الإرهـاب" في تمـوز 2012، والتـي يمكـن اعتبارهـا استنسـاخاً لمحكمـة أمـن الدولـة العليـا الاسـتثنائية.

"كان مقرّ محكمة الإرهاب في القصر العدليّ الجديد على أوتستراد المزّة. وكان رئيسها، القاضي نزيه خير الله، يحاول إنصاف المتهمين. لكن النظام سرعان ما عيّن القاضي ميمون عز الدين بدلاً عنه، قبيل إخلاء سبيلنا بيومٍ واحد. أوقف عز الدين إخلاء السبيل ولم يتأخر في تجريمنا والحكم على كلٍّ منا بـ15 عاماً، بعد أن أصدر أحكام إعدامٍ ومؤبّداتٍ على متهمين حوكموا قبلنا في الجلسة ذاتها. وحين تقدّم محامونا بالطعون انزعج القاضي الجديد وأرجأ الجلسة لأكثر من ستة أشهر. لكن عفواً، هو الخامس من نوعه، شملنا بعد شهرين تقريباً، لنخرج بعد ثلاث سنواتٍ وثلاثة أشهرٍ من كلّ هذا الجحيم.

لم يشمل العفو النقيب الذي يُعدّ قائد مجموعتنا، لكن ثوّار الغوطة أخرجوه -هو وضباطٍ آخرين- بصفقة تبادلٍ بعد أربعة أشهر. وهم لا يزالون يقارعون النظام بدرعا".

تقدّر المنظمة السورية لحقوق الإنسان عدد المعتقلين المحالين إلى محاكم الميدان العسكرية بأكثر من سبعين ألف معتقلٍ منذ بداية الثورة السورية وحتى نيسان 2014. وتشير الأرقام التي أوردتها تقارير حقوقيةٌ إلى أن أكثر من ثمانين ألف مواطنٍ سوريٍّ تمّ تحويلهم إلى محكمة الإرهاب.