الأمثال الشتوية السورية.. جدلية الانفصال والاتصال

تعبيرية من الإنترنت للشتاء في المخيمات

تعبر كثرة الأمثال والأساطير الشعبية المرتبطة بالشتاء عن كونه امتحان الإنسان وصراعه المزمن مع الطبيعة. ويعد الشتاء السوري فرصة لاستحضار كبار السن لكمٍ كبير من الأمثال المرتبطة به، بينما يكشف تداول تلك الأمثال بين الأصغر سناً بشكل مخل أو مشوه، فداحة القطع بين فترتين زمنيتين يعبر ناس كل منهما بطريقة مختلفة. 

لم تندثر الأمثال الشتوية في سوريا بالطبع، فتشكيلها اللغوي المحكم ووقعها على الأذن وطرافتها من العوامل التي تساعدها على البقاء، فهي جمل قصيرة لها جرس موسيقي خاص تدور على ألسنة السوريين من كبار السن خلال اجتماع الأسرة حول المدفأة. لكن الواقع الذي صار يعتمد فيه الأصغر سناً على الإنترنت في جواله ومعارفه المدرسية العلمية لمعرفة العالم من حوله، يشير إلى فك ارتباط الأمثال بمعرفة تلخص خبرة الإنسان التي يكتسبها والتجربة المتوارثة، وتحولها إلى "تراث ثقافي لامادي". 

تعتبر الأمثال الشعبية الحكمة الأكثر رواجاً بين الناس لامتيازها بسهولة الصياغة وخفة الظل، ولا تحتاج إلى ضبط لغوي ووزن شعري وقافية، كما أنها ذات بعد أخلاقي، وحكم موجزة بليغة تراعي الترادف والبراعة، وتلامس الحياة اليومية، وتنتقل بسهولة بين الأجيال.

لكن اليوم يمكن القول بأن "سلسلة النقل" التي كانت تضم "جيلاً عن جيل"، كُسرت بفعل ظروف وعوامل عديدة يتعلق قسم منها بتغير المرجعية الثقافية في محاكمة الأمور، وبالعولمة وما صاحبها من انتشار استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، وهي عوامل يتقاسمها السوريون مع سكان المعمورة، بينما يتعلق القسم الآخر بعوامل محلية خاصة، مثل الحرب وما صاحبها من تهجير ونزوح وخلخلة المجتمع، والانشغالات المعاشية المضاعفة وسط الفقر والخوف والتشرد، فضلاَ عن دخول الحديث بالسياسة كعنصر أساسي في الحوارات إلى يوميات السوريين.

وهذا ما أشار إليه الباحث عبد الله سندة، خلال حديثه لـ "عين المدينة": "أن الأوضاع التي تمر بها البلاد، وقسوة الشتاء على السوريين جعلتهم غير مهتمين بالتراث المحكي الذي يشكل حاضر وماضي البلاد، كونه مبني على تجارب وخبرات القدماء". واعتبر أن الأمثال "طبخة ذات أبعاد" وحصيلة ثقافة مجتمع على مر عقود سابقة، حيث يختار منها (الفطن الذكي) ما يناسب الحالة والمخاطب.

الباحث سندة في التراث السوري المحكي، حاول جاهداً عبر سنوات طويلة الوقوف على الأمثال والألفاظ المتناقلة على ألسنة أهالي مدينته حلب، حيث حقق وأعد بعض المؤلفات التي تتحدث عن موضوع التراث المحكي فيها وأهمها: "رفع العتب عن لهجات أهل حلب". وفيه يحشد مجموعة من الألفاظ واللهجات المتداولة في مدينة حلب، إلى جانب الأمثال الشعبية التي يحاول دائماً البحث عنها وعن مصادرها التاريخية وحقيقة قولها من السوريين القدماء، مع انحسار اهتمام الأجيال اللاحقة بهذا التراث الثقافي اللامادي الهام كونه يشكل عقدة الربط بين الحاضر والماضي.

يمكن ملاحظة أن الأمثال الشتوية السورية ليست متشابهة من حيث بلاغتها وسهولة فهمها، فمنها ما لا تحتاج إلى شرح أو تعليق حتى بالنسبة إلى الجيل الأصغر سناً نظراً لبساطة المثل ومباشرة لغته، مثل (ما بيطلع بكانون إلا المجنون)، (خبي حطباتك الكبار لآذار)، (لو بدها تشتي كان غيمت)، (الدروة فروة)، (مطر كانون در مخزون)، (مطرة نيسان تساوي السكة والفدان)، (شباط اللباط ما على كلامه رباط)، (السنة براد ما فيها حصاد)؛ بينما تظهر أمثال أخرى براعة في اللغة والمجاز مثل (زمهرير جهنم)، أو صعوبة في الفهم مثل (بشهر شباط أكلنا دهنتنا وسلمنا على شيبتنا) ويقصد به أن كبار السن يأكلون المؤن التي لديهم ويشكرون ربهم لأنهم لم يموتوا بسبب البرد القارس. 

إلى جانب تلك الأمثال يتناقل كبار السن من السوريين تقسيمات متعددة لفصل الشتاء، عبر ربطها بما يشبه الأسطورة الشعبية التي يتراجع تناقلها مع الزمن، في حين يبقى أثرها اللغوي والمعرفي في ما يشبه الأمثال الشتوية. 

تحدد الخبرة المتوارثة الشتاء السوري بتسعين يوماً، وتقسم هذا الأيام إلى الأربعينية "المربعانية" والخمسينية. وتُشير المربعانية إلى إيذان بدخول الشتاء واشتداده، وهي الوقت المرجح لتساقط الثلوج والبرد، وتبدأ من 22 كانون الأول وتنتهي مع نهاية كانون الثاني، وتشهد خلال الأيام الأربعين أقصر نهار وأطول ليل في العام، ويرتبط بها أمثال مثل (خش بابا واقفل البوابة) و(البرد بقص المسمار). ولعل توافقها مع علم الأرصاد الجوية ساعد في سعي الكثير من الشبان حتى في مقتبل العمر إلى تلمسها ومعرفة توقيتها.

و بانتهاء الأربعينية تبدأ الخمسينية التي تنتهي في 21 آذار، وتقسم إلى أربعة أقسام تسمى شعبياً بال "سعودات"، بحيث يكون كل سعود 12 يوماً ونصف. ويقول المثل (ما عجبتكم أحوالي بكرا بتجيكم خوالي)، أي في حال لم تكن الظروف الجوية مناسبة، ستأتي ظروف أشد قسوة في فترة السعودات أخوال الأربعينية.

ربط الخيال الشعبي السعودات بقصة أو "أسطورة شعبية" بطلها سعد، الذي ذبح ناقته واختبأ فيها ليتقي البرد في القسم الأول من الخمسينية "سعد الذابح" الذي يصفه المثل بأن (سعد الذابح ما بخلي ولا كلب نابح)، إذ يمنع الكلاب من التجوال، وأيضاً (إلي ذبح ربح وإلي ما ذبح انذبح).

أما القسم الثاني في الخمسينية فيسمى "سعد بلع" وهي تسمية تختصر الفصل الثاني من قصة سعد الذي بلع كبد ناقته التي ذبحها، ويعبر المثل عن هذه الفترة بأن (الدنيا بتشتي والأرض بتبلع). وفي "سعد السعود" حيث (بتدب المي بالعود بيدفى كل مبرود) حسب المثل، فترمز التسمية إلى القسم الثالث من الخمسينية حين يحس سعد بالدفء فيسعده ذلك، ثم يدخل الوقت إلى القسم الرابع "سعد الخبايا" حيث يخرج كل مختبىء من المخلوقات، وفيه يقول المثل (سعد الخبايا فيه تتفتل الصبايا).