متداولة لأحد أنفاق داعش في العراق

في النصف الثاني من 2014، بعد أن أزال الحدود بين العراق وسوريا، وأعلن خلافته، اقتطع تنظيم «الدولة الإسلامية» الجزء الحدودي من محافظة دير الزور ابتداءً من صالحية البوكمال، وضم إليها أجزاءً من محافظة الأنبار ليعلنها ولاية الفرات، ويعيّن «أبو أنس العراقي» والياً عليها، الذي لم ينتظر كثيراً ليدعو الراعي حميّد من عشيرة الجغايفة على الطرف السوري من الحدود لزيارته.

حميد الذي رفض بادئ الأمر قبول الدعوة، حضرَ تحت إصرار أبو أنس إلى مضافة الوالي، وفرد كيس تبغه، ولف سيجارةً، ودخنها على مرأى ومسمع حاشية أبو أنس، الذي تبسم ومنع الجميع من اعتراضه قائلاً: «لقد دعوت الله أن يخلصك من هذه الخطيئة منذ عام 2008»، فرد حميّد بثقة: «يبدو أن دعوتك لم تكن صادقة، أو أن دينك منقوص». ضحك أبو أنس، وأولم له، وروى للحاضرين قصة التنظيم والراعي حميّد.

في العام 2008 استطاعت حكومة المالكي مدعومةٌ بالصحوات والقوات الأمريكية طرد (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق) من المناطق التي انتشر فيها، لكنها وقفت عند حدود المدن والقرى والبلدات، حتى أن بعض الأخبار تقول أن أوامر منعت الجيش والصحوات من التقدم جنوب الرطبة باتجاه وادي حوران، كما منعتهم من التقدم في البادية الممتدة بين نهر الفرات وجبل سنجار، ويذكر بعض الصيادين السوريين، الذين لم يكتفوا بالبراري السورية وعبروا الحدود للصيد واكتشاف براري العراق، أن تلك المناطق مليئة بالأنفاق، وخنادق بعرض أكثر من خمسة أمتار وامتداد يصل إلى 100 متر مسقوفة بعوارض معدنية وسعف النخل المغطى بالتراب، بحيث لا يمكن رؤية المدخل إلا من مسافة قريبة. وقد اختبأ فيها عناصر تابعة للتنظيم القديم الذي اختفى ولم يظهر حتى خريف 2013، معلناً أنه «الدولة الإسلامية»، التي اشتد عودها بعد هروب معتقلي التنظيم من سجن أبو غريب، وقامت قائمتها مع احتلال الموصل، وكسر جبهة النصرة وأحرار الشام والفصائل الأخرى في الرقة ودير الزور.  

في ذلك العام الذي ذكره الوالي كان حميّد يرعى غنمه رفقة ابنه جنوب مدينة الرطبة العراقية، ودخلوا بمواشيهم وادي حوران الذي نُسجت حوله الأساطير، فظهرت مجموعة مسلحة اعتقلت الأب والابن لعدة أيام، ولما تأكدوا أنه مجرد راعي، أطلقوا سراحهم محذرين من مغبة الحديث عن تواجد مجموعات مسلحة في تلك المنطقة، وحميّد بدوره كابن عشيرة حفظ العهد وبقي يرعى في تلك المنطقة، ومنحهم ما يحتاجون من خراف وخبز ومواد تموينية دون أن يعرف من هم، سوى أن قائد المجموعة يدعى أبو أنس، الذي أصبح والياً لولاية الفرات، ورأى أن من ساعدهم أوقات ضعفهم، يستحق المكافأة ورد الجميل أوقات قوتهم. 

تُختتم الحكاية بأن حميّد لم يطلب شيئاً حتى هجوم التنظيم على قرى عشيرة الشعيطات واعتقال وقتل الذكور، وتشريد العائلات، عندها توسطته إحدى العائلات من الشعيطات لإخراج أبنائها الأربعة، فذهب إلى أبو أنس الذي صفح عنهم بدوره، وسلمهم لحميّد، رغم غضب صقور التنظيم من حاشيته. وعلى الرغم من التهويل الشعبي الذي أصاب الحكاية أثناء تناقلها إلا أن الكثير من أبناء البوكمال يؤكدون أن هؤلاء الأربعة فقط هم من نجا من إعدامات داعش بحق أبناء عشيرة الشعيطات.

واليوم، بعد الإعلانات المتكررة عن دحر تنظيم داعش من قبل روسيا والتحالف الدولي، يبقى في البادية السورية على الأقل بقعتان غامضتان: 

الأولى: ممتدة من الطريق الترابي الواصل بين محطتي الـ T3 والـ T2 النفطيتين حتى طريق دير الزور- تدمر، ابتداءً من جنوب قرية «الشولا»، هذه المنطقة لم تدخلها أية قوات بعد، وهناك مقاومة عنيفة في أطرافها، ومنها انطلقت هجمات عكسية للتنظيم على قرى الشولا وكباجب والسخنة، وعلى مقربة منها في بادية السخنة أظهرت تقارير مرئية لقنوات روسية أنفاقاً في التلال والجبال، تقود إلى حجرات متعددة جرى حفرها يدوياً. 

الثانية: هي منطقة الروضة شمال نهر الفرات على مقربة من الحدود السورية العراقية، هذه المنطقة التي تُجمع الشهادات على أنها الملاذ الأخير للتنظيم لكثرة الحفر فيها، وذهب بعض الشهود إلى أن التنظيم استعان بمتعهدي بناء من الداخل السوري لإنشاء مخابئ بيتونية تحت الأرض في تلك المنطقة لقاء مبالغ خيالية. وينسجم هذا مع الاعتقالات التعسفية الكثيرة للتنظيم بحق أبناء دير الزور، والذي يُساق معظمهم معصوبي العينين للحفر لعدة أيام في أماكن يجهلونها، وينسجم أيضاً مع آلة حفر الأنفاق الضخمة نسبياً التي وجدها الجيش العراقي في الموصل.

لقد هرب الكثير من عناصر التنظيم، بعضهم عاد إلى بلاده، وبعضهم هاجر إلى بلدانٍ أخرى بصورة غير شرعية بحثاً عن الأمان أو عن «جهادٍ» آخر، وبعضهم ذاب في المجتمع السوري أو عاد إليه، بعد أن أخذت بعض الدول رعاياها وعملاءها المنخرطين في صفوف التنظيم، لكن هناك تحت الأرض في بقعٍ نعرفها وأخرى نجهلها، اختفى ويختفي المئات وربما الآلاف بانتظار فرصةٍ أخرى للانقضاض على مكانٍ آخر.