أبو دجانة الزرّ: قصّة صعود وهبوط مبايعٍ محليّ

ربما كانت صحيحةً قصّة بيعة أبي دجانة الزرّ لأبي بكر البغداديّ شخصياً باليد في حلب، عام 2013، تلك التي طالما تفاخر بها أمام أقرانه. لكنها، وقد عنت له الكثير، لم تؤثر في والده الذي ظلّ يحضر اجتماعات مجلس المحافظة كعضوٍ حتى توقف عمل المجلس نهائياً بسبب سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، الأمر الذي أسهم فيه أبو دجانة بشكلٍ كبيرٍ، كأحد أبرز المبايعين المحليين.

تخرّج أحمد العبيد (أبو دجانة) في معهدٍ متوسّطٍ. وعمل، قبل الثورة، موظفاً في محطة المياه في قريته. بدأ ظهوره الإعلاميّ في أيلول 2012، ولم يتجاوز عمره الرابعة والعشرين وقتها، عبر سلسلةٍ من مقاطع الفيديو التي صوّرها في قريته الزرّ إثر استهدافها من طيران النظام، حاول فيها مواكبة الحدث على أكثر من مستوى. فظهر في أحدها يرتدي بزّةً عسكريةً برتبة ملازم، يتجوّل في بناءٍ متضرّرٍ وحوله أطفالٌ يحملون الشظايا (يصفهم بأشبال الحرية)، ويتكلم عن استهداف النظام لبيوت المدنيين بلغةٍ عربيةٍ مكسّرةٍ يبدو واثقاً منها: "كيف تدمروا البيوت الأعزلين!". كما يظهر في مقطعٍ آخر يتحدّث إلى مجندين أسيرين من أحد حواجز الحسكة، بحسب ما يذكر في المقطع الذي يدعو فيه "الجنود السنّة" إلى الانشقاق قبل أن تفوتهم "ساعة الصفر" و"تُقتلون-يستدرك- تؤسرون مثل الخنازير المخنزرة من الطائفة العلوية الصهيونية". في وقتٍ قريبٍ من تلك الفترة نفذ أحمد أول عملية قطع رأسٍ في مدينة دير الزور في حقّ شخصين قيل إنهما ضابطان في التدريب الجامعيّ، بعد مدّةٍ من استقراره -بصحبة مجموعة مقاتلين من قريته- في حيّ العمال بالمدينة، حيث تملك عائلته بيتاً سكنت فيه لفتراتٍ متقطعة، بحسب أحد جيرانه.

تداول "ناشطون مدنيون" مقطع إعدام "الضابطين" بفخرٍ بينما رفضه ناشطون كثر. وفيه يظهر أبو دجانة يعطي الساطور لطفلٍ صغيرٍ ليقتلهما انتقاماً لذويه. على أن الرفض لم يقف عند الناشطين بل تعدّاه إلى المقاتلين أنفسهم، فقد ترك بعضهم القتال إلى جانب أبي دجانة بسبب تلك الحادثة التي أضافت إلى شخصيته أبعاداً أخرى، فجعلت من التهاب الأذن الدهليزيّ الذي يعاني منه صرعاً أصابه بسبب عملية الذبح، كما يقول البعض، بينما يردّد آخرون أن محكمة لاهاي أرسلت مذكرة اعتقالٍ في حقّه إلى مختار قريته!

ولكن هذه الحادثة، والتصفيات التي نفّذها قبلها وبعدها، كما فعل في حقّ امرأةٍ شاردةٍ في المقبرة؛ لم تؤثر جدّياً على سمعته وقتها كمقاتلٍ منضبطٍ وجريءٍ ونزيه، عمل على حفر أوّل نفقٍ في المدينة للتسلل إلى مواقع قوّات النظام، وكان لا يتدخل في السياسة أو في تسيير الحياة اليومية للأهالي، وظلّ بعيداً عن تجاذبات التيارات الثورية المسلحة، لكن إلى حين. ففي نهاية 2012 يظهر في مقطع فيديو ليعلن انضمام كتيبته "عز الدين القسام" إلى لواء الأحواز العربية التابع للمجلس الثوريّ العسكريّ، بسبب الحاجة إلى الذخيرة كما يقول ناشطون، يضيف أحدهم أن العبيد لجأ إلى الأحواز بعد إصابة أخيه (الجنرال)، مسؤول التذخير في المجلس العسكريّ. وفي ذلك الفيديو يبدو أبو دجانة ملتزماً أكثر بالصورة التي يحاول تصديرها عن نفسه، فهو أكثر هدوءاً حين يقرأ البيان من لابتوب أمامه، يلبس الفلد العسكريّ الخاكيّ ويضع عمامةً سوداء على رأسه، ويتلو الآيات القرآنية بنبرةٍ متأثرةٍ بلهجة أهل الخليج العربيّ حيث قضى جزءاً من طفولته بسبب عمل والده، بحسب مقرّبين منه.

يرى البعض أن أحمد العبيد بايع جبهة النصرة بتأثيرٍ من القياديّ المحليّ عامر الرفدان (قتل في غارةٍ للتحالف في أيلول 2015)، ثم انتقل معه إلى التنظيم. والمؤكّد أنه بدأ بإيواء المهاجرين في العام 2013، في وقتٍ ساد فيه الهدوء النسبيّ في دير الزور وتحوّلت قوّات النظام من الهجوم إلى الدفاع، ما دفع بالمزيد من المقاتلين إلى المدينة حيث حاول الزر -مع قادةٍ آخرين وكلٍّ على حدة- تنظيم شؤون المقاتلين، فأقاموا -إلى جانب أشياء أخرى- حاجزاً يمنع إخراج السلاح من قطاعاتهم، الأمر الذي أضاف عداواتٍ ستظهر في ما بعد. ومع صعود نجم النصرة في منتصف تلك السنة بدأت خلايا تنظيم الدولة بالظهور، وشاركت في معارك آب في المدينة، إذ اتخذ بعض عناصرها حيّ الحويقة الخاضع للنصرة مكاناً له، واختار البعض الآخر حيّ العمال في كنف كتيبة عز الدين القسام. لتفتتح بعدها محكمةٌ إسلاميةٌ في الحيّ، وتخصّص مهاجرين لحراسة مقرّ الزر الذي وضع راية العقاب أمامه وغيّر طريقة تعامله مع الوسط المحيط به، كما يفيد مقاتلون سابقون من الجيش الحرّ.

في خضمّ الصراع الكامن نهاية 2013 بين "أحفاد الرسول" و"أحرار الشام" من جهةٍ وتنظيم الدولة من جهةٍ أخرى، وقد بدأ الأخير -بمساندة النصرة ولواء العبّاس- باعتقال المقاتلين بتهم الفساد ولكن لأسبابٍ تتعلق ببسط نفوذه في الحقيقة؛ تدخل تجمّع عبد الله بن الزبير، وقد تضايق عناصره من إجراءات أبي دجانة ومهاجريه في وقتٍ سابق، وبسبب نزاعاتٍ جانبيةٍ متعدّدة، فاستقدم فزعةً عشائريةً من الريف أجبرت التنظيم على الانسحاب من المدينة بعد أن فاوض عنه الزر الذي خرج عن أدبه وخجله المعروفين –في تناقضٍ غريبٍ مع دمويته- وراح يهدّد الجميع مستقوياً بالتنظيم، ولكنه اختار الخروج معه والعودة بعد عدّة أشهرٍ كأحد القادة الميدانيين في معركة السيطرة على المدينة، ثم أميراً لقطاع العدنانيّ الممتدّ من نهر الفرات حتى الجبل شرقاً. وحينها أدخل عدداً كبيراً من أبناء قريته في صفوف التنظيم، ولعل تسمية "الزرداحة" التي أطلقها الكثيرون على قرية الزرّ وقتها توضح إلى أيّ مدىً وصل نفوذه في المدينة وتسلّط أقربائه.

في هذه المرحلة ظهر أبو دجانة في أكثر من مقطعٍ وقد تخلى نهائياً عن الفصحى وصار يتكلم بالمحكية التي تنوس بين لهجته الريفية والسعودية. يتوعّد في أحدها النظام على جبل الشيخ (يصحّح بقاسيون)! كما يتكلم في آخر عن طلبه مشاركة بلدة ذيبان في المعارك وكيف "رفعت راسه". على أن الأهالي يتناقلون العديد من الأسباب التي جعلت (المشاركة-الفزعة) ليست تلبيةً له ولا إيماناً بأفكار التنظيم، لكن محاولات النصرة قيادة الريف اصطدمت بواقع انتماء عناصرها العشائريّ، الذي فهمه خصومهم اعتداءً على عشائرهم التي تغذّي تياراتٍ منافسة. يضاف إلى ذلك أن الفزعة جاءت للنجاة بالحدّ الأدنى من الخسائر والحصول على بعض المنافع المستقبلية، وإغلاق قضايا قديمةٍ قد يفتحها التنظيم بعد سيطرته.

تحت لواء التنظيم قاد الزر العديد من المعارك ضدّ قوّات النظام، خسرها جميعاً. وكانت أشهرها معركة الجبل التي سقط فيها ما يقارب الثمانين من المهاجمين، في نهاية 2014، إلى جانب وقوع الزر مغمياً عليه، بحسب أحد المسعفين الذين استقبلوه في المشفى. وقد اتهمه الكثير من الأهالي بالتواطؤ مع التنظيم لفتح المعركة بقصد التخلص من مقاتلي الجيش الحرّ الذين رفضوا مبايعته، والذين كانوا مرابطين على تلك الجبهة، بينما نظر إليه البعض كولدٍ أخرق، ورآه آخرون مؤمناً مندفعاً. بعدها أخذ يخبو نجم القائد الذي دفعه على ما يبدو "تاريخه العسكريّ" الذي راكمه من بعض الاشتباكات في حارات حيّ العمال والمعارك في الريف، حيث آثر الكثيرون السلامة، فراح يتطلع إلى أحد المناصب القيادية التي سبقه إليها الأدالبة من لواء داود.

يقول أبو خالد، وهو مقاتلٌ من الجيش الحرّ: "حَسّ أبو دجانة أنه الو شأن بس تهمّش" أمام القادة الجدد؛ القائدين العسكريين أبو الأثير وأبو إسلام وأمير ديوان الخدمات أبو الطيب وآخرين من لواء داود، بدأوا بتصفية نفوذه قبل أن يوضع تحت تصرّف الوالي. يقول أبو خالد: "مرّة أبو إسلام سحب سلاح حرس أبو دجانة وبهدلهم وما قدر يردّ عليه". حاول الزر أن يزيح منافسيه لكن فشله في المعارك حال دون ذلك. ويضاف إلى ذلك أن المقاتلين من أبناء قريته، وبعد تعيينه في ديوان الركاز، صاروا يتهرّبون من القتال. وقد مهّد أبو إسلام العسكريّ الطريق لهم فمنحهم الإجازات على هواهم لاستغلال ذلك ضد الزر، كما أفاد أحد المقاتلين الذي يضيف أن الأدالبة كانوا يتجسّسون على أبي دجانة الذي قابلهم بالتجسّس أيضاً.

في المقطع الذي يظهر فيه الزرّ مع شرعيٍّ من التنظيم لأخذ بيعة وجهاء عشائريين من منطقته، يتكلم أبرزهم مرتبكاً ليقول باسم عشيرة أبي دجانة: "هوّ جابنا ع الدولة، ما نعرف شني السالفة هذي هي. ش اسوّي؟"، فيردّ أحدهم ملطفاً الجوّ: "هوشة عرب". ويبدو أن التنظيم في حاجةٍ اليوم إلى تلك الهوشة لتوظيف الامتداد العشائريّ لأبي دجانة، خاصّةً في ظلّ تقدّم "قوّات سوريا الديمقراطية" المرفوضة محلياً، فعيّنه والياً لولاية الخير (محافظة دير الزور باستثناء البوكمال)، رغم أنه دون "علمٍ شرعيٍّ"، وهو الشرط المعتاد في ولاة التنظيم، كما يلاحظ إعلاميون.

على أنّ الحظّ العاثر لحق أبا دجانة، فأصيب بعد توليه منصبه بمدّةٍ قصيرةٍ مما استوجب عزله. وفي ظلّ الوالي الحاليّ، أبي خطّاب العراقيّ، تولى أبو محمود الزرّ، الذي كان مجرّد جلادٍ عند الأمنيين، ولاية المدينة. والأرجح أنه سيكون له، كما كان لابن قريته من قبل، شأنٌ كبيرٌ في إراقة المزيد من الدماء، وتوريط المنطقة في نزاعاتٍ عشائريةٍ إضافيةٍ ستمتدّ طويلاً.